آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

الحزن على فقد الوحش!

سالم الأصيل

عادةً، لا يتعلق الأطفال بما هو زائف، ولا تتوجه أرواحهم الشفافة وقلوبهم النقية إلا لما يشبهها.

ليس متيسرًا أن تعبر حاجز الزمن، ولا أن تردم هوة السنين التي أدار رحاها الوقت.

ليس سهلاً أن تسمع عن ملاكٍ صغير يشترك و”الوحش“ الكبير في حب طاهر بريء غرضه المتعة وأداته الساحرة المستديرة، فيقول الطفل الصغير بقلب منكسر لمّا ورد إلى علمه رحيل الوحش: ”يعني خلاص ما بنشوف الوحش؟“

هكذا كان الأطفال متعلقين ببطل رياضي شغوف مسَّتْهم منه شرارة شغفه المرهف متلازمًا وتحديه الطريف الدائم في الملاعب حتى استحق لقب ”الوحش“.

لا نعرف كيف يكون الوحش محبوبًا إلا أن يكون يوسف الأخضر، فكانت ”المحبوبية“ صفة تابعة للصفة الأولى وإن لم تُلفظ لجلائها غالبًا، فكان ”الوحش المحبوب“ عنوانًا لبيان اجتماع الضدّين، وتوثيقًا لندرة هذا الاجتماع والاتفاق. ولربما كمُن في الشيء/ الصفة ضده/ ا.

للقسوة معالمها البادية، وللطف ملامحه الظاهرة.

غير أن هذا ”الوحش المحبوب“ كان قاسيًا كما يبدو، لكنه لطيف بما يكفي لاجتذاب كل من اجتمعوا حوله، بل وقصدوا مجالسه وملاعبه الترابية صغارًا وكبارًا على تعدد أمكنتها الممتدة على تربة هذه الأرض الطيبة التي تشبه نفسه.

لم تكن تلك الصرخات الغاضبة من وحش الملاعب ضد اللاعبين كلهم زملاء وخصوم سوى وميض إصراره على كسب التحدي، كما لم تكن ”قصائده“ العفويّة الطريفة الطائشة من سياج المبنى - والمعنى أحيانًا - سوى ارتداد لحسّه الطفولي المرهف، وتعلّقه بشخصيات يحبّها الأخضر فيمدحها ويعنون بها تسديداته وكلماته الرنانة.

لذلك، كان ذلك كلّه مثيرًا للبهجة والسعادة، أو التسامح وعدم المؤاخذة على تقدير أقل؛ في الوقت الذي يكون مستهجنًا لو كان من غيره على غير صفته!

ولمّا حانت ساعة رحيله، وياللعجب، اختار له القدر/ القلب مسرح الرحيل المكان الذي يعشقه؛ الملعب، إذ توقف حيث كان يتحرك أحبّ حركة إليه، وكأنما كافأ القدر حبّه له بطيّ صفحته فيما سُخّر قلبه له، و”للناس فيما يعشقون مذاهب“.

سألني صديقي لمّا وجد ذلك الحزن العميم لفقد أيقونة الملاعب الترابية يوسف الأخضر، وذلك الالتفاف الكبير الذي حظي به في وقت متأخر من ليلة من ليالي العمل والدراسة حول جثمانه، بحضور ذلك الحشد الغفير من الناس، متسائلاً عمّا إذا كان نظير هذا سيحدث فيما لو كان الفقيد رجلاً ذو قيمة علمية ولكن ليس له اتصال مباشر والمجتمع، فتذكرت حثّ سيد البلغاء والمتكلمين علي :

”خالطوا الناسَ مُخالطةً إنْ متّمْ مَعَهَا بَكَوا عليكم، وإنْ عشتم حَنّوا إليكم“، والحقيقة أن اجتماعهم إلى جنازته إنما كان خليطًا بين الشطرين، فهم إمّا بين من لم يره منذ مدة طويلة فحنّ إليه، أو أتى ليلقي النظرة الأخيرة فيبكي عليه ويعلم أنه بعد ذلك يحنّ إليه.

هم يحنّون - حين يحنّون - إلى أغصان مثمرة من شجرة ذكرياتهم، ويبكون - حين يبكون - على اقتلاعها من سطح تربة الأنس والألفة، حزنًا على زوال فرصة التكرار.

على سبيل التأمل؛ ظننتُ أن الرجل لما كان يحمل بين جنباته حسًّا فكاهيًّا فكان سببًا في بهجتهم - ورحمته بإذن الله - لحلاوة روحه، سببًا رئيسًا لتلك الجاذبية التي تمتعت بها شخصيته الفريدة، وعاملاً للجذب نحوه لاتصالها بنقطة عميقة من شعورهم وأحاسيسهم المتعبة من وطأة الحياة الثقيلة الجافة في جدّها البالغ وجدّيتها المفرطة التي أخذت بهم قسرًا نحو جدب المشاعر، فهم سيميلون إلى ما يرطب أرواحهم ويطرّي نفوسهم برشّ الرذاذ على سطحها أو في عمقها إن برع وتمكن، فالناس يحبّون - من تلقائهم - من يبكيهم، ويحبّون - ربما - أكثر من يضحكهم.!