الليل... صديقا
كان الليل سريرا يتشكل وفق أجساد النائمين، فيكون حريرا تحت الأجسام المترفة، وحسكا تحت الأجسام المتخشبة، ولكنه ملَّ من تلك الحالة الراكدة، فخرج من قاموسه، وأصبح رمزا للجهل والظلم، أو بساطا نرجسيا للسهر والنشوة، أو زورقا مثقوبا للمتقلّبين على أشواك القلق، أو أطياف سعاد وأخواتها، فراح كل عاشق مسكين ينادي: «يا ليل الصب متى غده؟» حتى التهم الخريف حناجرهم. كان لوم الليل وتعنيفه سائدين على الألسنة، فالمنتشون يلومونه على انقضائه بسرعة، والمتقلبون على جمر الذكريات يلومونه «لبطء كواكبه» فكل من مريديه وأعدائه ينظر إليه من خلال ذاته غير مدرك بأن الليل له عينان لا بياض فيهما تريان وتسمعان ما يدور في أرجائه.
كتبت، منذ زمن، مقالا عن «الليل» وأعود الآن بدافع جديد هو قراءتي لديوان الشاعر عبد الوهاب أبو زيد، «لا تترك الليل وحده» فكل قصيدة فيه تحمل نجمة من نجوم الليل. إنه شاعر متحد مع الليل اتحادا صوفيا، وقد سلك وديانا إبداعية للوصول إلى هذا الاتحاد: فالليل عنده هو الكائن الأول في أساطير الخلق الأولى، وهو تارة أخرى، يمثل وادي طوى، وهو ثالثة حديقة، وهو طفل يبحث عن أبويه في الرابعة، وهكذا.. فكل قصيدة تشبه واديا من الوديان التي على المتصوف أن يقطعها، ولكنها وديان إبداعية، يترقرق فيها الجمال بخيلاء، لا كتلك التي يسلكها المتصوفة في سكرات الوهم.
حين أقرأ قصيدة، تحملني من ضفة إلى أخرى، أحس بمطر «يذوب الصحو منه» يهطل عليّ وعلى الأشياء من حولي، هكذا شعرت حين قرأت قصيدة «ظلان» في هذا الديوان «ظلان في جوف الظلام / يحدقان بسروة مكسورة / ويرتبان لكي تقوم / عن التراب ظلالها...» وتنهمر القصيدة عليك انهمار «نافورة من نخيل» وتبقى السروة المكسورة هي الضوء الذي يكشف لك ما في القصيدة من روعة مضمرة.
أعتقد أن كل شاعر وشاعرة، له تجربة ذاتية خاصة عن الليل، فنازك الملائكة وفدوى طوقان مثلا نرى الاختلاف واضحا في تجربتهما، وكذلك نرى تجربة عمر بن أبي ربعة تختلف عن تجربة أي شاعر آخر. ولو تتبعنا الشعر، منذ العصر الأول، لوجدنا أن من يفرح بالليل قلة نادرة. أولهم في ثقافتنا المعري: «فكأني ما قلت والبدر طفل / وشباب الظلماء في عنفوان / ليلتي هذه عروس من الزنج / عليها قلائد من جمان..» أما نحن فننتظر شاعرا يصف ليلنا لا ليل عبد الوهاب.