آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 8:09 ص

حياةٌ مزدوجةٌ

محمد الحميدي

يتميز العصر الراهن بأمرين هما السرعة والجاهزية، وهذان الأمران عليهما مدار الأفعال والأقوال، حيث الأفعال تتبدى في الاستعجال الشديد؛ كما في الذهاب والإياب والسفر والعودة، حتى أن المرء ليشعر بالزمن يتحرك بسرعة، وهو شعور متداول بين الناس كافة وكأنه حقيقة ثابتة، أما الأقوال فتبرز من خلال التناقل السريع للمعلومة أو ما يمكن أن يُطلق عليه التواصل الآني «أي الآن»، عبر وسائل التواصل وبرامج السوشيال ميديا.

السرعة لا تنفك عن الجاهزية وكأنها التوأم الملاصق، فإذا كانت السرعة وليدة التقنيات والمخترعات الحديثة؛ ستكون الجاهزية نتيجة لها، سواء أكانت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالمرء الذي يعيش زمن السرعة يحتاج توفر الأشياء قريبة منه؛ مثل الملعب، والسينما، والمدرسة، والعمل، والمطعم، وكل ما يتصل بشؤون الحياة؛ وهو ما يدعو إلى أن تكون الحياة أكثر ميلاً لمراعاة الخصوصية الفردية وحب الانعزال عن العالم.

الخصوصية الفردية سلوك انتقل من العالم الافتراضي، حيث المرء يعيش ضمن عالمين؛ عالم واقعي حقيقي وعالم افتراضي خيالي، فما يؤثر في أحدهما ينعكس على الآخر، ومن هنا منشأ العلاقة الوثيقة بينهما؛ كما في قضايا التعارف والتلاقي، أو في قضايا التقاطع والتباغض، وكذلك في إمكانية الإعلان والترويج للمنتجات والبضائع، أو في دعوات الزفاف والإعلان عن حالات الوفاة، وصولاً إلى إمكانية مقاضاة المسيئين ورفع الشكاوى ضد المتنمرين.

التواصل ما بين العالمين يحصل على أرفع مستوى، إذ ما يحدث في أحدهما يؤثر في الآخر، وإذا كانت أبرز مميزات الواقع الافتراضي تتمثل في السرعة والجاهزية والخصوصية، فالعالم الواقعي سيتأثر بها كذلك وستكون أبرز مميزاته، حيث ستتعاون فيما بينها؛ من أجل تحقيق رغبات المرء، التي ستكون آنيَّة وحاليَّة، تبحث عن الإشباع والتحقق بأقل مجهود.

الجاهز والآني والسريع مزايا الحياة المعاصرة، وحينما تُفتقد واحدة منها، سرعان ما يتجاوزها المرء، ويتركها وراءه؛ إلا إذا كان مجبراً، كما هو حال الدراسة، التي تتطلب قدراً معينًّا من التمهُّل والتأني، أو كما هو حال العمل، الذي يتطلب قدراً من الموثوقيَّة والدقة في الإنجاز، وهي أمور لا تتقاطع بالضرورة مع مزايا الحياة المعاصرة، بل ربما عاكستها، ومن هنا يمكن فهم الشكوى الصادرة من بعض الأفراد تجاه أعمالهم، ومن بعض الطلاب تجاه مدارسهم؛ لكونها تخالف سمات العصر وشروطه، وهو ما دفع إلى إحداث تغييرات في بعض الأنظمة؛ لتناسب الشروط الجديدة، كما في اعتماد الدراسة عن بعد، وتقليص ساعات العمل المكتبي.

الحاجة إلى الحضور المباشر لم تعد شرطاً من شروط الدراسة والعمل، وهو حال كثير من أمور الحياة، إذ يستطيع المرء الدراسة بمفرده، والعمل لوحده، مثلما يتمكن من تهنئة صديق، أو تعزية في وفاة قريب، دون أن يلتقي بالآخر؛ ما يكرِّس ميزة الخصوصية والابتعاد عن المحيط، وهو ما من شأنه أن يزيد من انعزاله، إلى أن ينفصل عن الواقع، ويكتفي بالعيش في عالم خيالي افتراضي.

مشكلة إنسان اليوم تتمثل في عدم قدرته على التكيف مع هذه الازدواجية، فإذا أراد إنجاز أمر اتجه إلى الواقع؛ كما في الدراسة والعمل، لكن حينما يريد التعبير عن نفسه، أو مشاركة الآخرين لمنجزه، فإنه يتجه إلى العالم الافتراضي. هذا التشابك ما بين العالمين يلقي بظلاله على أفعاله وأقواله، التي سيصيبها الاضطراب والارتباك، إذ سيغدو كثير منها مفتقداً للوضوح والفهم؛ نتيجة تقديم صورة جزئية، قد لا تكون حقيقية تماماً.

الوضوح والفهم يحتاجهما المرء لإدراك ما يجري، لذا حينما تغيبان ستختفي قدرته على اتخاذ قرارات صائبة، وسيكون في حالة تردد وترقب، وهو عيب خطير من عيوب ممارسة حياة مزدوجة، كالتي بين الواقعي والافتراضي