آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:32 م

زمنٌ مُختلِف

محمد الحميدي

تتمثل إحدى أكبر المشكلات المعاصرة في الشعور بضيق الوقت وقلته، وهو أمر يُلمس بشكل واضح حين التحدث مع الأشخاص؛ إذ يشتكون من عدم كفايته، وأنه يضيق عن تلبية احتياجاتهم، ومتطلبات أعمالهم وانشغالاتهم، لهذا يُلاحظ أنهم يحاولون تسريع حياتهم عبر القيام بعدد من الأفعال، بعضها يتصل بشخصهم؛ كالإسراع بالسيارة للحاق بالمواعيد والالتزامات، وتلبية الرغبات والمتطلبات، وبعضها لا يتصل بشخصهم؛ كانتظار ركوب الطائرة، أو الوقوف في طابور الطلب من مقهى.

قلة الوقت وعدم كفايته لا تتعلق بالمظاهر المادية فحسب، إذ تشمل كذلك المظاهر غير المادية؛ كالتفكير، واتخاذ القرارات، ومحادثة الآخرين، والتواصُل معهم في الآراء والأفكار، وهي الأمور التي تعطي الحياة معناها، وتهب الإنسان مكانته وقيمته، ومن أهمها وعلى رأسها اكتساب المعارف والخبرات ومراكمتها والاستفادة منها، وهو ما يتبدى في أكثر من شكل؛ إما عبر الدراسة والحصول على الشهادة، أو الترقي في الوظيفة واكتساب ثقة الرؤساء، أو البروز الاجتماعي والقيام بأدوار خدمية.

السعي إلى المجد والحصول على التقدير والمكانة، يعدُّ من أثمن وأهم المكاسب في حياة الإنسان، ولا يناله إلا عبر المظاهر غير المادية، حيث يتفاوت الناس ويتفاضلون؛ كحال الكَرم الذي يتخذ مظهراً ماديًّا يتمثل في البذل والعطاء، رغم أنه نابع من صميم النفس الإنسانية، لهذا يتفاوت الأفراد ويتفاضلون بنسبة عطائهم وبذلهم، وكحال المعرفة والخبرة، إذ البعض يسعف الآخرين بمعارفه والبعض بخبرته، فيعملون على تقديمها وبذلها بحسب أنفسهم، رغم أنها لا تكلفهم جهداً، فهم يتفاوتون ويتفاضلون فيها، وبحسب تقديمها وعبرها يتَّضح الفرق بينهم ويحصلون على مكانتهم.

زمن مختلف كالذي يُعاش اليوم، حيث الروابط والعلاقات تقلصت إلى حدِّها الأدنى؛ نتيجة استعمال برامج التواصل ومواقع السوشيال ميديا، ومصاحبة ذلك للشعور العارم بضيق الوقت وعدم كفايته؛ جعل الناس تتخلى عن الأشياء التي لا يرون فائدة من وجودها أو لم تعد تهمهم، إذ الحياة غدت مراتب ودرجات، فالعلاقات المباشرة أصبحت تحتل مرتبة أدنى من العلاقات الافتراضية، كما في التهاني والتعازي وطلبات التوصيل من المطاعم والمقاهي، وتتدنى المراتب حتى تصل إلى القراءة التي ستخرج من القائمة، وسيكون الاستثناء هو حضورها، ولن يأتي إلا لأجل الحاجة الملحَّة؛ كالمذاكرة للاختبار، والاطلاع على قرار، أو ما شابه.

القراءة في الزمن المختلف هي أيضاً مختلفة، فما كان في الماضي ممدوحاً أصبح مذموماً، وهو ما يفتح باب التساؤل حول جدوى الفعل الإنساني الحالي، الذي أخذ يبتعد عن اكتساب المعرفة والخبرة بالطريقة التقليدية المعتمدة على القراءة والتحصيل، واتجه إلى منصات التواصل ومشاهير السوشيال ميديا، الذين أصبحوا يقدِّمون معرفتهم وخبرتهم للمتابعين، حتى وإن كانوا يفتقرون إليها هم أنفسهم، وهنا تتضح المصداقية والأمانة في تقديم المعلومة، ويتبيَّن أنها ليست من أولوياتهم، التي تنحصر بزيادة زخم المتابعة والتفاعل.

الحياة التي تضيق بالوقت يعيشُ الفرد فيها لحظته الراهنة، فلا يفكِّر في ماضٍ، ولا ينظر إلى مستقبل، لذا سينشغل بالحالي عن الماضي والآتي، وسيظل يدور في الفراغ، فلا تفكير ولا تأمُّل ولا مظاهر أخرى غير مادية، وهو ما سيؤدي إلى عدم حصوله على التقدير والمكانة، وسيجعل وجوده مرتبطاً بوجود آخرين، يمتلكون تأثيراً وتوجيهاً لسلوكه ورغباته.

قيمة الإنسان في استفادته من زمنه الذي يعيش فيه، والفرص إنما هي مظاهر للزمن، الذكي من يستفيد منها في تعزيز مكانته، وهي لا تأتي من فراغ، بل عبر عمل منظَّم مقرونٍ بجهد وصبر واستمرار، أما ضيق الوقت وعدم الجدوى، فادعاء يخضع لمتغيِّرات الزمن نفسه، ويمكن أن يتبدَّل مع تبدُّل الأشخاص والأحوال.