آخر تحديث: 27 / 7 / 2024م - 2:13 ص

تأملات في الملحمة الحسينية «المستوى الإيقاعي 1»

حسام منصور آل سيف

ذكرنا في المقال السابق أن الشاعر المرحوم الشيخ حسن الدمستاني استخدم نظاما جديدا لم يكن معروفا في أيامه، فهو لم يتخذ نظام المربعات كما كان متعارفا عليه فيمن سبقه من الشعراء، وكان التجديد في اتخاذه أبيات في المربعات بدلا من الأشطر، ولكي لا يطول البيت الشعري نظم القصيدة على مجزوء الرمل، فتكون السطر الشعري بين البيت الكامل الذي يحتوي على ست تفعيلات، وبين الشطر الذي يحتوي ثلاث تفعيلات. وبحر الرمل هو بحر خفيف سهل يتماشى مع مختلف الألحان ”بحر الرمل بحر الرقة ولذا أكثر النظم عليه يصلح للحزن“ [1] ، ويذكر الدكتور بديوي عن بحر الرمل ما ذكره الدكتور طلال، ويعد أن هذا البحر هو أساس لفن الموشحات ”والرمل بحر الرقة فيجود نظمه في الأحزان والأفراح والزهريات ولهذا لعب به الأندلسيون كل ملعب وأخرجوا منه ضروب الموشحات“ [2] ، ولكي نختصر كلامهما يكفي أن نبحث عن صوت القصيدة في الشبكة العنكبوتية لنرى تعدد وتنوع الألحان - الأطوار - التي قيلت بها القصيدة بين الحزين والحماسي أو البطيء والسريع على ألسنة الخطباء والرواديد.

وهنا يطرح سؤال: كيف استفاد الشاعر من هذه التجربة؟ وكيف أعطته انطلاقا ليبني الملحمة - نسميها ملحمة تجاوزا كما ذكرنا في المقال السابق -؟

الجواب على المستوى الإيقاعي استفاد منه في ثلاثة جوانب، وهي:

1. التفعيلة الأخيرة في البيت، وهي التي تسمى بالضرب.

2. نوع القافية بما يتبعها أو يسبقها من حروف مد أو لين.

3. وقوة صوت الحرف وتعدد نغمات الحروف.

ولبعض من التفصيل سنأخذ كل جانب على حده:

الجانب الأول التنويع في ضرب القصيدة «التفعيلة الأخيرة من البيت»: نظام التربيع يحرر الشاعر من أن تكون القصيدة ذات قافية واحدة هذا ما يظهر بكل وضوح في نهاية الأبيات ولكن لو تأملنا قليلا وجدناه يتعداه إلى التنويع في الضرب «التفعيلة الأخيرة من البيت»، وهي التي تكون ملزمة للشاعر في القصيدة ذات الشطرين.

والإيقاع الخارجي هو البحر الشعري، ويتشكل من تتالي تفعيلية واحدة أو أكثر في الشطر الواحد، والتفعيلة تتشكل من نسق معين من تتالي المتحركات ومع الساكن.

وكما ذكرنا أن وزن القصيدة من بحر الرمل وهو من تكرار تفعيلة «فاعلاتن»، التفعيلة الأخيرة من البيت تسمى الضرب وبالنسبة لبحر الرمل له ثلاث أضرب «فاعلن، فاعلاتان، فاعلاتن» [3] ، ولكن الشاعر قد استخدم ضرب آخر هو فاعلات «فاعلان» وهو الغالب في القصيدة، وهنا يأتي السؤال هل كان الشاعر غير مدرك؟ وهو الذي ينظم على الأوزان الجزلة كطويل والكامل وهذه الأوزان أصعب من بحر الرمل ”الذي سمي بالرمل لسرعة النطق به“ [4] ؟؟ أم أن الشاعر كان قاصدا فيما أراد، ولا سيما أن الضرب الأكثر تكرارا هو فاعلات، حقيقة أمر يدعو للدهشة، فهل تراه أردا أن يكون هذا الضرب هو الغالب؟ لأنه يمثل آخره كلمة «حسين»، وسنذكر فكرة تكراره في القافية في المقالات القادمة بإذن الله. وعلى أي حال هناك من النقاد من يتقبل هذا التنويع على الرغم من أنه لم يكن معروفا فيما مضى مثل الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه موسيقى الشعر ”وقد رويت للمحدثين أشعار فيها الأبيات تنتهي بوزن «فاعلات» بدلا من فاعلاتن، وهو ما لم يقل به أهل العروض، ولكنه مع هذا أو برغم هذا حسن الموسيقى تطمئن له النفوس“ [5] ، وهنا الدكتور يقصد الشاعر أحمد شوقي الذي جاء بعد وفاة الشيخ الدمستاني بقرن من الزمان تقريبا! أي أنه سابق الثورة الحداثية في الشعر العربي وكسر العمود العربي وولادة شعر التفعيلة بأكثر من قرن من الزمان!

استفاد الشاعر من نظام المربعات أو التربيع في تعدد الضرب مع ملاحظة أن الغالبية هي فاعلات. وشواهد من ذكرنا من الملحمة:

1 - فاعلات: هو الضرب في عصب القصيدة البيت الرابع من كل مربعة مثل:

«وأنا في مشعر الحزن على رزء الحسين» ءلحسين /0//00 = فاعلات.

وفي غير البيت الرابع من المربعة مثل:

«أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور» ضششهور /0//00 = فاعلات.

وقد تأتي مخبونه «حذف الثاني الساكن» لتصبح فعلات، وهي ما تعطيه أيقاع أكثر سرعة مثل هذه التربيعة:

«جد صفو العيش من بعدك بالأكدار شيب» دارشيب /0//00= فاعلات.

«واشاب الهم رأسي قبل أبان المشيب» نلمشيب /0//00= فاعلات.

«فعلى من داخل القبر بكاءٌ ونحيب» ونحيب ///00 = فعلات.

نلاحظ أن فعلات في الوزن أسرع من فاعلات، وجاء بها الشاعر في الشطر الثالث كي لا تلزمه في باقي المربعة، وهكذا المربعة التي قبل هذه المربعة:

«ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح» ذا ضريح» = فاعلات.

البيت الثالث: «ضاق بي يا جد من فرط الأسى كل فسيح» لفسيح ///00 = فعلات.

2 - فاعلن: مثل:

«صبت الدنيا علينا حاصبا من شرها» شررها /0//0 = فاعلن.

وقد تأتي هذه التفعيلة مخبونه «حذف الثاني الساكن» لتصبح فعلن///0 مثل:

«حين نبّا أهله الغر بما قال النبي» لنبيى ///0 = فَعِلُن.

وهذا العروض قليل في القصيدة. ونرى أن البيتين الأولين من المربعة ضربهما فعلن لكن الثالث فاعلن.

«فكأن لم يسبينوا مشرقا من مغرب» مغربي /0//0 = فاعلن.

وهنا تتجلى عبقرية الشاعر في انه حتى في العلل العروضية كان يستخدمها في البيت الثالث حتى لا يلتزم بها في باقي الأبيات، ”العلة تغيير يلحق بالعروض والضرب فقط وهو ملزم للبيت الذي تدخله ولباقي الأبيات“ [6] .

ونلاحظ أن الشاعر لم يأتِ بفاعلاتن أو فاعلاتان في ضرب القصيدة. كأن الشاعر أراد ابتكارا يناسب سرد القصيدة، وهذا التنويع في العروض لأن البيت مجزوء مدور - بدون عروض - أعطاه الحرية في التنقل حسب المشاعر وما يريد من ايصال المعنى، وربما الحالة النفسية أيضا تلعب دورا في التدفق على الوزن.

هذا بعض التأمل في التفعيلة الأخيرة في الملحمة، وكيف أن التربيع يتناسب مع تعدد الضرب في القصيدة وبالتالي في كسر الرتابة من جهة، ويكسب الشاعر مساحة الحرية لتغيير النسق من جهة أخرى، وسأتناول في مقال لاحق تنوع القوافي ودور التربيع في بنائه.

،،،،، يتبع

[1]  علامة: د. طلال صناعة الكتابة وفن التعبير، دار الفكر اللبناني، لبنان، بيروت، ط 1 1995م، ص 273
[2]  بدوي: د. أحمد أحمد، أسس النقد الأدبي عند العرب، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الجيزة، ط7 2009م ص318
[3]  د. علامة: مرجع سابق ص273
[4]  المرجع نفسه ص272
[5]  أنيس: د. ابراهيم، موسيقى الشعر مكتبة الأنجلو المصرية، مصر، القاهرة، ط 4 بدون سنة الطبع ص 125
[6]  د. علامة: مرجع سابق ص259