«عقيدة الخلاص» من الفكر إلى السياسة
تحت مصطلح ما يسميه «عقيدة الخلاص السياسية» يعيد المفكر والناقد الأدبي البلغاري تزفتان تودوروف «1939 - 2017» قراءة تاريخ الديموقراطية الأوروبية انطلاقا من مسارين اثنين: الأول يختص بتاريخ الأفكار الذي يبحث عن جذور منشأ هذا المصطلح في التاريخ المسيحي، والأثر الذي تركه لاحقا على معظم المفكرين الذين شكلوا انعطافة مهمة في تطور حضارة المجتمعات الغربية.
والثاني هو المسار الذي اتخذته الأحداث منذ عصر التنوير الأوروبي وما تلاه من ثورات وحروب وصراعات إلى حدود القرن الحادي والعشرين، حيث التقاء المسارين وربط أحدهما بالآخر نتجت عنه العقيدة الخلاصية.
وهي تختلف بالتأكيد عن عقيدة المخلص أو فكرة المهدوية التي انحدرت من تراث عريق يتصل بالزرداشية، وقد تتقاطع هذه مع تلك في فترات تاريخية معينة، وقد يبتعدان في فترات تاريخية أخرى، لكننا لسنا في صدد الحديث عنها الآن.
أواخر القرن الرابع الميلادي وأوائل القرن الخامس فيه عاش كل من البابا بيلاجيوس والأسقف أوغسطين، لم يلتقيا أو يتقابلا لا في روما ولا خارجها، لكن أفكارهما كانت مدار صراع طويل بين أنصارهما، كانت تخفت زمنا وتشتعل زمنا آخر.
محور الصراع كان يدور حول فكرة «الخطيئة الأصلية» التي ولدت مع الإنسان ولا يكون خلاصه إلا باتباع المسيح وتعاليم الكنيسة والإيمان بها، وبعطايا الله ونعمه لأنه عاجز لوحده على تجاوزها. هذا ما يقوله أوغسطين، بينما بيلاجيوس يعلي من شأن إرادة الإنسان، فما دام الله خالق هذا الكون وقد خلق الإنسان على صورته، فهذا الأخير قادر على أن يمتلك زمام إرادته ويخلق الخير كما فعل المسيح، فالخطيئة عنده مكتسبة، وبالتالي بإرادته الخيرة وعقله يمكن له تجاوزها، لكن عن أوغسطين لا تصح إلا بالإيمان فقط.
وابتداء من عصر النهضة ظهرت الغلبة لأفكار بيلاجيوس عند المفكرين الإنسانيين: ميراندول، إيراسموس، مونتاني، ثم جاء عصر التنوير الذي اقترب بدوره من أفكاره، وبالخصوص ما يتعلق منها بحرية الإرادة عند الإنسان، وعلى الرغم من اختلاف مفكري عصر التنوير في الموقف من أفكار بيلاجيوس، إلا أن ارتباط الإرادة بالعقل أجمعوا على أنه يفضي إلى فكرة التقدم وبالتالي حصول الإنسان على جنته الموعودة على الأرض بدلا من السماء.
وعلى هذا الأساس دخلت هذه الأفكار وتسللت إلى الثورة الفرنسية، فبعدما كانت تخص الفرد كما هي عند بيلاجيوس، عممت على المجتمع الفرنسي وتبناها الثوار والجيش الذي أخذ على عاتقه تصديرها إلى خارج الحدود، ومن يراجع تسعينيات القرن الثامن عشر أي بعد الثورة بقليل يطلع على تقارير تتكلم عن أحداث ومجازر وحالات قمع ارتكبت بوحشية باسم الثورة.
ثم جاء نابليون وتبنى العقيدة نفسها وفرضها على أوروبا طوال ثلاث وعشرين سنة من الحروب المتواصلة كانت نتائجها الملايين من الضحايا.
وإذا ما تقدمنا قليلا في التاريخ الأوروبي نجد فكرة الخلاص تمثلت في قانون «الحتمية التاريخية»، فالمشروع الشيوعي الماركسي الذي جاء بالثورة البلشفية يرتكز بالأساس على الأفكار المنحدرة إليه من هيجل عبر ماركس والذي يشكل هذا القانون مداه، ممزوجا بالثورة الصناعية التي رسخت طابعه الشمولي.
والأمر نفسه ينطبق على الحركة النازية التي لم تأخذ طابعها الشمولي الخلاصي، إلا بعدما اقترنت أفكارها بصورة حتمية بقوانين علم الأحياء في صيغتها الداروينية الاجتماعية.
وسؤالي هنا عند نهاية الاستعراض التاريخي هل التاريخ يكرر نفسه فيما يخص الصراعات والحروب في العالم الراهن - خصوصا - وإن فكرة الخلاص الإنساني قديمة قدم الإنسان نفسه؟!!