تجربة في العبور من حواجز الخلاف المذهبي
يُوفِّر التأمُّل في سيرة الشيخ حسن الصفار الفكرية والعملية، فرصة نادرة لمطالعة التحوُّلات التي مرَّ بها المجتمع الديني بشكل عام، ومجتمع القطيف بصورة خاصة، خلال العقود الأربعة الأخيرة. هذه مادة غزيرة تحتاج مساحة أوسع ممَّا هو متاح، ووقتًا أطول، كي تأخذ حقَّها في البحث والتحليل. لهذا أكتفي بشذرات ممَّا أظنه واحدًا من أبرز جوانب التميُّز في تجربة الشيخ حسن، أعني به دوره في مد جسور التفاهم بين أطراف شديدة التباغض والتباعد. وهو جهد لم يقتصر على المبادرات العملية، بل توازى معه تنظير عميق ومتين التأسيس، لفكرة التقارب والتفاهم. وأظن أن جهود الشيخ في هذا المجال بالذات، قد تركت أثرًا عميقًا في الثقافة السياسية للشيعة السعوديين، وسهَّلت عليهم التحرُّر من تابوهات شديدة العسر، تابوهات تتعلَّق بتقبُّل الاختلاف والتعامل مع المختلف، استنادًا إلى قيم ومعايير غير تقليدية.
وأريد استثمار المناسبة في التذكير بجهود الأشخاص، الذين بذلوا جهودًا مشكورة في مد جسور التفاهم بين المجتمعات المسلمة، وحاولوا تثبيط موجات الكراهية والتعصُّب، التي تهب على العالم الإسلامي بين حين وآخر. لا شك أن جهود هؤلاء الأشخاص وغيرهم، قد مكنتنا من تلافي بعض الفتن والعيش بسلام، مهما تخالفت آراؤنا وتباينت مذاهبنا وتوجهاتنا. هذا المقال مكرَّس لتمجيد الاتجاه التوافقي في الإسلام التقليدي، الذي لا أوافقه في معظم رؤاه، لكني لا أنكر جهوده الطيِّبة في مد الجسور.
هذا القول لا يكتمل، دون الإشارة إلى حقيقة أن النشاطات التي تستهدف تقريب الخصوم وردم الفجوات، لم تكن بالأمر المحبَّب لدى غالبية الناس، من النخبة والعامة على حد سواء. من هنا فإنك لا تجد غير عدد ضئيل من الأشخاص الذين يمكن وصفهم بصنَّاع التوافقات أو بناة الجسور، بين عشرات التيارات والجماعات التي ملأت المشهد الاجتماعي والسياسي، منذ أوائل القرن العشرين حتى اليوم.
الاتجاه التوافقي، أي دعاة التقارب بين الجماعات الدينية، كان ولا يزال تيار أقلية في المؤسسة الدينية، وبين النخبة الاجتماعية على حد سواء. ثمة - في مقابلهم - متعصبون يدعون لمقاطعة المختلفين، وهم يشكلون نسبة تزيد قليلًا عن التوافقيين، لكن خطابهم يجد قبولًا أكثر بين جمهور العامة الذي يميل - إجمالًا - لاتخاذ مواقف انطباعية مؤقتة، ومدفوعة في غالب الأحيان بردود الفعل على ما يظنونه توجهات عدوانية من جانب الأطراف الأخرى.
أعتقد أن هذا هو أحد الأجوبة عن السؤال الملحِّ الذي يواجهنا تكرارًا، وفحواه: لماذا يصعب علينا تقبُّل الاختلافات والخلافات، واستيعابها في البناء الاجتماعي كمؤشر على المتانة الثقافية والتنوع المثري؟
يمثّل العلَّامة السيد موسى الصدر، الزعيم الديني للشيعة اللبنانيين في الفترة بين 1960 حتى اختطافه في 1978 استثناء ملفتًا بين كافة الزعماء الدينيين في الشرق الأوسط، فقد سعى بجد وباستمرار، لمد جسور التواصل مع القوى الدينية والأيديولوجية في لبنان، منذ أن حل فيها ممثِّلًا للمرجع الديني السيد حسين البروجردي.
وقد ترك السيد الصدر لخلفائه تجربة عملية غنية. لكنها - لسوء الحظ - لم تتحوَّل إلى أمثولة في المجتمع الديني، وأعني به تحديدًا الحوزة العلمية ورجال الدين. ويبدو لي أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين «1936-2001» نائب الصدر وخليفته، هو الوحيد الذي حافظ على تراث التواصل الذي انشأه الصدر، رغم أنه اختصره كثيرًا، فركَّز - في المقام الأول - على إصلاح علاقة الجمهور الشيعي بالحكومات القطرية، لا سيما في منطقة الخليج العربي، التي كانت قد شهدت توتُّرًا بين الجانبين بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979.
لا أنسى بطبيعة الحال التجربة الغنية للمرحوم السيد هاني فحص «1946 - 2014» الذي كان فريدًا في سعيه الدائب لمد الجسور وإنشاء التفاهمات مع مختلف الاتجاهات السياسية والدينية. تدرس تجربة السيد هاني في إطار مفهومي أوسع من التقارب المذهبي، كما أن منطلقاتها تتجاوز هذه الحدود.
أود الإشارة - أيضًا - إلى السيدين حسين البروجردي، المرجع الأعلى في وقته، وعبد الحسين شرف الدين «1872-1957»، أبرز علماء الشيعة في لبنان، الذي تُوفِّي قبل عام من وصول الصدر. ويقال: إنه هو الذي أوصى بأن يكون خليفته، ولعله طلب من البروجردي أن يرسله إلى لبنان كممثِّل ديني له.
كان السيد شرف الدين منفتحًا على المؤسسة الدينية السنية في لبنان وعلى شخصياتها، وشارك في عدد من المناسبات التي أقامتها دار الفتوى، وتحدَّث فيها حول ضرورة توحيد الصفوف.
على الصعيد الفكري المتعلِّق بقضايا الحوار، فإن أبرز ما كتبه شرف الدين هو كتاب «المراجعات» الذي يضم ما يفترض أنه محاورات مع شيخ الجامع الأزهر يومذاك، الشيخ سليم البشري. ويكشف هذا الكتاب عن ميل قوي لدى شرف الدين، لمد جسور الحوار مع المختلف المذهبي. لكن يؤخذ عليه تركيزه بشكل تام على الجانب المذهبي/ الديني دون مجالات الحياة الأخرى، التي كان يمكن أن تشكّل قواسم مشتركة وجسورًا ممتدة، لا يختلف عليها اثنان. في اعتقادي أن الاستغراق في نقاش الخلافات العقدية لا يخدم مبدأ التقريب، ولا يساعد في ترميم الجسور بين هذي الضفة وتلك، بل ربما عطَّل الجهود الرامية إلى هذا.
تُوفِّي المرجع الديني الأعلى السيد حسين البروجردي في مارس 1961. وكان قد تولَّى المرجعية العليا بعد وفاة سلفه السيد أبي الحسن الأصفهاني في 1946. وثمة مؤشرات عديدة، تشير إلى أنه كان أكثر الفقهاء المراجع اهتمامًا بقضايا الحوار. وسمعت وقرأت شهادات متطابقة، تؤكِّد اهتمامه بتعزيز اتجاه المصالحة بين السنة والشيعة، ولا سيما بين رجال الدين. ونقل ثلاثة من تلاميذه البارزين أنه كان حريصًا على استعراض آراء الفقهاء السنة بجانب نظرائهم الشيعة، في دروسه العالية في الفقه «البحث الخارج»، وكذلك أحاديث الأحكام المعتبرة عند هؤلاء وأولئك. ونقل آية اللَّه منتظري أن البروجردي كان ينظر إلى الفقه السني كخلفية، توضح الإطار التاريخي للروايات والأحكام الصادرة عن أئمة الشيعة، ولهذا اعتبر معرفة الفقه السني وأدلته ضرورية للفقيه الشيعي [1] . ويتَّفق كل من واعظ زاده خراساني ومرتضى مطهري، وهما - أيضًا - من تلاميذ البروجردي، أن أستاذهما كان يعتبر اختلاف الأدلة والأحكام بين الشيعة والسنة، ظاهرة علمية طبيعية ولا علاقة لها بالفوارق العقيدية، وأنه كان يعارض اتخاذ الفروق العقيدية مقياسًا في التعامل معها [2] .
إضافة إلى هذا، نقل أكثر من مصدر أن البروجردي كان منزعجًا من الميول الانعزالية في الوسط الشيعي، ولا سيما تلك التي تتغطَّى برداء الدفاع عن العقائد المذهبية الخاصة. ومن ذلك مثلًا ما نقله منتظري من أن أحد رجال الدين نشر منظومة شعرية تضم الأحكام الفقهية، ولما علم البروجردي بأن مطلع الكتاب يتضمَّن تعريضًا بالخلفاء الراشدين، أصدر فتوى بحرمة نشر الكتاب، فاضطر صاحبه إلى إزالة هذا التعريض [3] .
وفي السياق نفسه أظهر البروجردي معارضة شديدة للاحتفاء الواسع بالشيخ عبد الحسين الأميني، مؤلف كتاب «الغدير» حينما زار اصفهان قادمًا من النجف [4] «لم أعثر على التاريخ الدقيق لهذه الزيارة، والأرجح أنه في صفر 1376 هـ - سبتمبر 1956».
وخلال تتبعي لمجريات زيارة الأميني إلى أصفهان، لفت نظري أنه لم يزر مدينة قم، العاصمة الدينية للبلاد، حيث مركز الحوزة العلمية ومقر المرجع الأعلى وكبار الفقهاء، والتي تبعد عن أصفهان أقل من 300 كم، وتقع في طريق سفره، في الذهاب والإياب. فلعل الأميني أراد تحاشي الاضطرار إلى لقاء البروجردي.
أعلن عن إنشاء «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» في القاهرة سنة 1947. وترأَّسها محمد علي علوية باشا وهو وزير سابق للأوقاف. وضمَّت قائمة المؤسسين عددًا من الشخصيات الدينية الرفيعة، بينهم عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت، وكلاهما تولى - في وقت لاحق - مشيخة الجامع الأزهر، والشيوخ محمد عبد اللطيف دراز وحسن البنا وعيسى ممنون وعبدالوهاب خلاف. كما ضمَّت الشيخ محمد تقي القمي من إيران، وعبدالحسين شرف الدين من لبنان والشيخ أمين الحسيني من فلسطين، ومحمد حسين آل كاشف الغطاء من العراق ومحمد تقي القمي من إيران، وعلي بن إسماعيل المؤيد ومحمّد بن عبداللَّه العمري من اليمن [5] .
كان للشيخ محمد تقي القمي قصب الريادة، في الدعوة إلى إنشاء هذه المؤسسة. ويبدو أنها شغلت اهتمامه منذ زيارته الأولى إلى مصر في 1937. وبحسب بيانها التأسيسي الصادر في مارس 1947 «ربيع الثاني 1366 هـ» فإن جوهر مهمتها، هو تعزيز التعارف والتفاهم بين أتباع المذاهب الإسلامية كافة، بما يكرس مفهوم الأخوة في اللَّه ووحدة الاتجاه، وإن تنوَّعت الطرق والممارسات والرؤى الفقهية.
في 1979 أغلقت دار التقريب، نتيجة لتوتر العلاقات بين إيران ومصر بعد قيام الثورة الإيرانية. والحقيقة أن هذه الفترة شهدت - أيضًا - تصاعدًا غير مسبوق للنزاعات المذهبية. وقد أطلقت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة «الإيسيسكو» مبادرة للتخفيف من غلواء التنافر المذهبي، وعقدت اجتماعًا لهذا الغرض في الرباط في سبتمبر 1991، ثم وضعت استراتيجية عمل قدمتها إلى المؤتمر العاشر لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في ماليزيا سنة 2003، وحظيت الاستراتيجية بقبول المنظمة وتبنيها. وعلى إثر ذلك، تأسَّس داخل الإيسيسكو مجلس استشاري أعلى، لتنفيذ مضامين استراتيجية التقريب، لكن الواضح أن النزاعات السياسية التي وسمت العلاقات بين دول العالم الإسلامي خلال هذه الفترة، قد حالت دون أي تقدُّم جِدِّي في هذا الاتجاه.
يخبرنا المسرد التاريخي لجهود التقريب المذهبي، أن الاتجاه التصالحي لم يتحوَّل إلى جناح ثابت في التيار الديني الرئيسي «التقليدي» بين الشيعة، ولا في المؤسسة الدينية. لكن الإنصاف يقتضي القول: إن هذا التيار لم يخلُ في أوقات كثيرة من ميل للتصالح، مدعوم أحيانًا من جانب الطبقة العليا في المؤسسة الدينية. والواضح أن الاتجاه التصالحي لم يحقّق نجاحات باهرة، كما يتوقَّع كثيرون. لقد تعثَّرت المساعي التصالحية بعد رحيل المرجع البروجردي، على رغم أن خليفته السيد محسن الحكيم، كان هو الآخر أميل للاتجاه التصالحي مع المذاهب الإسلامية، لكن هيمنة الاتجاه القومي «القوميين العرب + البعث العربي الاشتراكي» على الحكم في العراق، أعاقت هذا المسعى.
أظن أن الميول الطائفية الظاهرة لحكومة عبدالسلام عارف، الذي تولَّى السلطة بعد انقلاب فبراير 1963، قد ثبَّطت الميول التوافقية. وقد تعرَّضت الحوزة العلمية في النجف، وهي الوعاء الرئيس للمؤسسة الدينية، لتضييق شديد، يصعب فصل مضمونه الطائفي عن مبرراته السياسية والأيديولوجية. ولم يكن بوسع الحوزة سوى الانكفاء على الذات وتجنُّب المواجهة، كما فعلت في غالب الأحيان. لكن هذا الموقف لم يكن بلا ثمن، وكان انعكاسه الأكثر سوءًا هو تثبيط الاتجاه التوافقي، وتعزيز الاتجاه الانعزالي وسط النخبة الدينية والاجتماعية.
لاحظت - أيضًا - أن الاتجاه الانعزالي بقي نشطًا، حتى في ظروف مواتية، كما هو الحال في إيران بعد 1979 والعراق بعد 2003، الأمر الذي يحملني على الاعتقاد بأن الاتجاه التصالحي، لا يملك مقومات قوية للحياة والاستمرار، فضلًا عن النمو والتوسُّع. وهذا التقدير ينطبق خصوصًا على اتجاه التصالح في التيار الديني التقليدي، والمؤسسة الدينية التي تحتل قمته. لا يختلف الأمر بين الاتجاه القديم الذي استعرضنا جهوده في السطور السابقة، وبين نظيره الجديد القائم على المبررات والمعايير نفسها.
ثمَّة - في رأيي - أربعة عوامل رئيسية، لفشل تلك الجهود الكبيرة والمقدَّرة. وإذا أردنا إطلاق حركة تقارب وتوافق اليوم، فيجب أن تتلافى بقدر المستطاع عيوب الحركة السابقة. هذه العوامل هي:
أولًا: الانشغال بقضايا الخلاف:
إن محور انشغال الاتجاه الديني التقليدي هو قضايا الخلاف النظرية، لا سيما في العقيدة والفقه، وإغفالهم التام تقريبًا لقضايا الدنيا ومشكلاتها، بما فيها تلك التي يعاني منها أتباعهم أشد المعاناة، وأهمها في اعتقادي تعزيز السلم الاجتماعي، بين مختلف الناس الذين يمكن أن يتأثَّروا بالنشاط الديني، ويأتي من بعده تعزيز الشعور العام بالمسؤولية تجاه الذات والغير، وما يندرج تحته من مهمات المجتمع المدني، سيما في الأقطار التي تقاعست حكوماتها عن القيام بما يتوجَّب عليها من دور تنموي، أو ربما عجزت عن القيام به كاملًا.
وقد رأينا مثالًا ممتازًا على آفاق التعاون الممكن، في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمرأة، الذي انعقد في بكين عام 1995 حين توافق وفد الفاتيكان مع بعض الوفود الإسلامية «ومنها وفد الجامع الأزهر» على تشكيل جبهة موحَّدة، ضد الدعوات الرامية لتشريع ما اعتبروه نقضًا للقيم الدينية المشتركة، مثل تشريع الإجهاض والعلاقات المثلية.
إن انشغال المجتمع الديني، وأعني رجال الدين على وجه الخصوص، بقضايا الخلاف النظرية في الفقه والعقيدة، تجعلهم أكثر تشدُّدًا مع المختلف. من ناحية أخرى فإن الجمهور العام لا يرى لنفسه دورًا في هذا الخلاف، فهو لا ينعكس على حياته بشكل مباشر، كما أنه - مثل غالب القضايا النظرية - معقَّد وغير مريح إلَّا للمختصين. من هنا فإن دور الجمهور سيقتصر على التلقي من النخبة الدينية وإظهار النصرة لمواقفها، وليس المشاركة في تطوير مواقف منبعثة من واقع الحياة ولوازمها.
نتمنَّى أن تتبلور طروحات عابرة للمذاهب، تتعلَّق بأغراض إنسانية بحتة، مثل مشروعات مكافحة الفقر والاتِّجار بالبشر ونشر المعرفة وتعزيز التفاهم والتسالم بين الشعوب ومواجهة نزعات التعصُّب والكراهية، وأمثال ذلك. مثل هذه المشروعات يمكن أن تجعل المختلفين دينيًّا أو مذهبيًّا، أقدر على التفاهم في قضايا الحياة التي تشكّل همًّا مشتركًا، كما أنها تكشف لهم عن إيجابيات التقارب والتلاقي الإنساني، حيث إن الخلافات في الأفكار لا تشكِّل سوى جزء صغير من الحياة بآفاقها الرحبة.
ولا شك أن النخبة الدينية تملك قوة تأثير عظيمة، ولديها قدرة - ربما غير مستثمرة فعليًّا - على تعبئة الملايين من الناس في مختلف أنحاء العالم، في أي مشروع يجد الناس أنه سيعود عليهم أو على نظرائهم من بني آدم بالخير. إن الإنسان - بطبعه - ميال للتعاطف والتضامن مع بقية البشر، وما أعظم أن يستثمر التوجيه الديني في تظهير وتفعيل هذه النزعات القيمة، وتحويلها إلى أداة لربط الجسور بين البشر، على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم.
ثانيًا: غموض أغراض المصالحة:
إن جوهر فكرة الحوار والمقصود به عندهم، لم يكن واضحًا تمامًا. فالنقاشات المسجَّلة توحي بأن غرضها الرئيس، هو التسالم ونبذ الصراع بين السنة والشيعة. لكن الوسائل التي اتّبعت لتحقيق هذه الغاية، تركّز على بيان المشتركات الفكرية بين المذاهب والمبررات النظرية لنقاط الاختلاف، فكأن الغاية المرادة - على مستوى العمل - هي إقرار كل من الطرفين بحقانية ما يطرحه الطرف الآخر، أي أن يقبل الشيعي بصحة القواعد والفروع التي يتبنَّاها السني، وأن يتقبَّل هذا صحة ما لدى الطرف الأول. وهذا الطريق يقود إلى نتائج أكثر تقدُّمًا وأبعد أثرُا من الغاية الأولى.
لو تأمَّلنا في المعنى الكامن وراء هذا القبول المتبادل «على افتراض أنه هو المقصود فعلًا»، لوجدناه مقاربًا لمبدأ تعدُّد الحق pluralism وليس فقط تعدُّد الاجتهاد. وهو لو صح، فسوف نعتبره خطوة متقدِّمة جدًّا، في اتجاه تبني مبدأ التسامح الديني religious tolerance.
معنى هذه الرؤية أن الحق ليس واحدًا، وأنه بالإمكان أن يكون هناك إسلام بنسخة سنية، وإسلام بنسخة شيعية، ولا مانع من وجود نسخ أخرى للإسلام، كلها صحيحة، وأن من يتبنَّاها مسلم صحيح الدين بريء الذمة، وبالتالي فلا ينبغي التنازع بين هذا المذهب وذاك، أو أن النزاعات بين المذاهب ستعتبر اختلافات على أمور الدنيا لا على الدين.
لكني استبعد أن يكون هذا المعنى، هو المضمون الكامن في دعوة الحوار المذكورة؛ لأنه لو كان هذا المعنى موجودًا في تفكير المتحاورين، لطبَّقوه على من يعارضهم في إطاراتهم الاجتماعية والدينية الخاصة. حيث نعلم أن الذين عارضوا التيار الديني السائد، واجهوا عنتًا شديدًا، من جانب القوى النافذة في العالم السني والشيعي على حد سواء. وهو ما ينفي احتمال تبني تلك القوى «وبينهم دعاة الحوار» لمبدأ التعدُّد.
احتمال ثانٍ: من المحتمل أن مبدأ تعدُّد الحق/ الحقيقة لم يكن الباعث لتلك الحوارات، بل الإيمان بالأساس العقلي/ الشرعي للاجتهاد. وخلاصته أن كل من اجتهد للوصول إلى الحقيقة، فهو معذور إن أخطأ، بل ومثاب على جهده. والمجتهد لا يلام ولا يدعى لترك ما توصَّل إليه باجتهاده، حتى لو جاء مخالفًا للإجماع. بمعنى أن دعاة الحوار يُقرُّون لمناظريهم بحق الاجتهاد والالتزام بما ينتج عنه. هذا لا يعني إقرارًا بأن ما يتوصَّل إليه الآخرون صحيح من الناحية الدينية، بل هو إقرار بأن للناس الحق في الاجتهاد والالتزام بنتائج تفكيرهم واجتهادهم، لأن حكم العقل محترم وهو حجة على صاحبه، دون الآخرين.
إذا صح هذا الاحتمال، فهو يعني أن دعاة الحوار كانوا مؤمنين بحرية التفكير والتعبير وحق الآخرين فيه، حتى لو قلنا بحصره في إطار الالتزام الديني، أي حرية الراي والتعبير في إطار المنطلقات الدينية، وعدم الخروج على قواعد الدين العامة.
أيًّا كان الاحتمال الصحيح، إيمانهم بالتعددية أو تقبلهم لحرية التفكير والاعتقاد، فإن الاستغراق في النقاشات النظرية ومحاججة الأدلة، بعيد عن الهدف المفترض، أي التفاهم والتسالم والتقارب بين المجتمعات المسلمة. هذه المهمة لم تتحقَّق في الماضي، ولا يمكن أن تتحقَّق من خلال النقاش العلمي؛ لأن الافتراق لم ينشأ في الأصل لأسباب علمية، ولم يستمر ويتعمَّق بسبب الاختلاف على الأدلة العلمية أو توفر البيانات.
لقد افترق المسلمون في ماضيهم وحاضرهم على مصالح سياسية واجتماعية. ولهذا فإننا لا نعرف نزاعًا دينيًّا أو مذهبيًّا، جرى حلُّه من خلال النقاش العلمي، بل من خلال إعادة تعريف المصالح والحصص، وتعيين ما يستحقه هذا وما يستحقه الآخر.
قبل الانتقال من هذه الفقرة، أود الإشارة - أيضًا - إلى نقطة جوهرية نحتاج إلى استذكارها، لو اقتضى الأمر مناقشة مستجدة للحوار بين المذاهب، أعني بها مسألة التسامح. لقد بذل دعاة الحوار جهدًا عظيمًا وطيِّبًا، في سبيل تجسير الهوة بين أهل الإسلام من مختلف الطوائف. وهذا جهد مقدَّر ومحمود. لكن هذا لم يكن متوازيًا مع التزام صريح وعلني بمبدأ التسامح وحرية الاختلاف، الذي ينبغي أن يطبق دون تمييز، في العلاقة مع المختلف المذهبي والمختلف الديني وحتى الملحد.
في اعتقادي أن الحوارات التي تبنَّاها التيار الديني التقليدي، أخفقت في التحرُّر من المضمون التبشيري، الذي يعني - ضمنيًّا على الأقل - عدم الإقرار بحق كل الأطراف في الاختلاف، وحقها في عدم الإقرار بصحة ما يتبناه الآخر، والقبول - في الوقت نفسه - بالتعاون معه، في الأمور التي لا تنطوي على صدام مع قناعات دينية أو مذهبية خاصة.
ثالثًا: الاستمرارية بدل التجديد:
منهج التقارب المذهبي الذي يعتمد، في المقام الأول، على تقريب الأفكار والإقرار المتبادل بالمتبنيات، أدَّى - موضوعيًّا، وإن لم يكن مقصودًا في الأساس - إلى تقبيح النقد واعتباره هدَّامًا في الجملة. ولهذا رأينا في بعض الحالات ردود فعل غاضبة، من جانب من يفترض أنهم دعاة تقارب، على رؤية نقدية صادرة من الطرف الآخر. لعل المثال الاقرب على هذا، هو الملاسنة الشديدة التي جرت بين الشيخ يوسف القرضاوي وتلاميذه من جهة، وبين نائبه في اتحاد علماء المسلمين، الشيخ محمد علي التسخيري وآخرين، بعد تصريحات الأول حول ما أسماه التبشير الشيعي [6] .
أجد أن الفرضية التي سار عليها منهج التقريب، تحتم - حتى من دون تصريح - التوقّف عن النقد، كي لا ينظر إليه كموقف عدائي من جانب المذهب الآخر. إن اختلاف المذاهب قد يكون عاملًا مساعدًا في إصلاح كل مذهب، إذا أقرَّ رجال هذا المذهب بأن النقد حق، وأنه ضرورة للإصلاح والتطوير لا غنى عنها.
بيان ذلك: الاختلاف المذهبي يعني أن هناك من يرى في مذهبي عيوبًا نظرية أو عملية، تجعله دون المستوى المطلوب للالتزام «وبالتالي إبراء الذمة بحسب التعبير الفقهي». أنا - أيضًا - أرى المذهب الآخر على هذا النحو، ولولا هذا لتبنيته.. وهكذا. كل شخص يجد نفسه في إطار ديني أو ثقافي أو أيديولوجي يرتاح إليه ويقبل مسلَّماته، ولهذا - وهذا من طبائع الأمور - يراه أصح من غيره. كما أن غيره يرى الأمور بالعكس تمامًا، وسبحان القائل: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ .
وجود هذا الاختلاف بين الناس، والتباين بين المذاهب والآراء، هو العامل الأهم في إبقاء سنة التطوير حية نشطة. ولو كان الناس جميعًا متَّفقين على رأي واحد ومذهب واحد، لما شعر أحد بالحاجة إلى تطويره. للإنصاف يلزم القول: إن أي مذهب لا يخلو من دعاة للإصلاح والتطوير من داخله. ولهذا فقد يقول بعض الناس: إن هذا هو الأسلوب الصحيح، أي إن يقوم أتباع كل مذهب بإصلاح مذهبهم، دون التطرُّق لمذاهب الآخرين، خشية التسبُّب في إطلاق مشاعر القلق والخوف على الذات وبالتالي العداوة.
هذه الفكرة صحيحة في هذا السياق فقط، وهي صحيحة في حالات التأزُّم، وليس في كل حال.
بيان ذلك: أن النقد الداخلي لا يذهب غالبًا إلى النقاط الحرجة أو العيوب الإصولية، إما لأن الإنسان لا يرى الأشياء حين يكون في وسطها، أو لأنه تربَّى ونشأ على اعتبارها صحيحة، مثل بقية أجزاء المذهب، ولهذا لا يرى فيها ما يخالف المنطق الذي يعرفه. هذا الشخص نفسه ينظر إلى المذاهب الأخرى، فيشعر بالدهشة من كثرة الأشياء التي يحسبها غير معقولة، أو غير مبنية على أرضية متينة، بل لعله يستغرب من قبول أصحاب ذلك المذهب لها دون تردُّد. المثال الذي يقال في هذا الصدد، هو نظرة المسلمين إلى الهندوس وتعاملهم مع البقرة. وفي المقابل نظرة غير المسلمين إلى المسلمين وطوافهم حول الكعبة وأعمال الحج بصورة عامة، التي تبدو لسائر الناس غريبة وغير معقولة.
من هنا فإن النقد الآتي من خارج الإطار الثقافي/ الأيديولوجي، هو الدافع الفعَّال للإصلاح؛ لأنه لا ينطلق من قبول مسبق بالأساسيات والفرضيات، بل ينطلق من نقد الفرعي إلى نقد الكلي. صحيح أنه مؤلم لهؤلاء الذين لا يفصلون بين ذاتهم وانتمائهم الفكري/ الأيديولوجي، لكنه - في الوقت ذاته - داعٍ جِدِّي وقوي للمراجعة والنقد الداخلي والدعوة للإصلاح العميق.
بعبارة إخرى، فإن الإصلاح والتجديد في الفكر الديني، رهن بإبقاء الباب مفتوحًا أمام النقد الخارجي، حتى لو وجدناه مؤلمًا أو مضرًّا في بعض الأوقات. وعلى العكس من ذلك، فإن محاربة النقد الخارجي أو اعتباره - على الدوام - عدوانًا على المذهب أو الدين، سيؤدِّي إلى انكفاء متعاظم على الخصوصيات، حتى الأسطورية والفولكلورية منها، وتحويلها في نهاية المطاف إلى مقدسات.
إن تجارب الأديان والأيديولوجيات في هذا المجال غير قليلة. لو استمع الفاتيكان إلى نقد مارتن لوثر في 1517 لما انشقت الكنيسة على نفسها، ولو سمع الشيوعيون الروس النقد الآتي من غرب أوروبا في السبعينات، فلربما نجا نظامهم الشيوعي من السقوط المدوي في 1991. من الحري بالشيعة أن يستمعوا لنقد السنة، وحري بهؤلاء أن يستمعوا لنقد أولئك، وعلى الاثنين أن يستمعوا لنقد الملحدين وغير المسلمين بعامة، لأنهم يرون في ثقافتنا وممارساتنا ما لا نراه ولا نتوصل إليه، أو على الأقل لا يراه معظمنا، من العامة أو علماء الدين.
زبدة القول: إن منهج التقريب في الوسط التقليدي، اعتبر في حينه سمة للإصلاحيين في هذا الوسط. لكن رغم هذا، فإن عدم تبلور مبدأ حرية الاعتقاد وحرية التفكير والتعبير، وعدم تبلور الدعوة إلى الإصلاح الديني، ساهم في تحويل دعوة التقريب إلى سبب لتجميد النقد والإصلاح الجذري في المجال الديني.
لا أعلم في الحقيقة إن كان المجتمع الديني أو غيره، حاملًا - في تلك الأوقات - لجنين الإصلاح الجذري أم لا، لكن ما أستطيع قوله: إن فرضيات المصالحة حملت معها ما يمكن أن أسميه فرضيات التساكت، أي مطالبة كافة الأطراف بغض الطرف عن أي نقطة يرونها موضوعًا يستحق النقد.
رابعًا: إغفال الساحة الشعبية:
لاحظت خلال بحثي عن تجربة السيد حسين البروجردي ومجايليه، سيما الشيخ محمد تقي القمي مؤسس دار التقريب، أن جهود هؤلاء اتَّجهت إلى مصر، التي كانت يومذاك زعيمة العالم السني. في المقابل، لم يبذل جهد يذكر في اتجاه السنة الإيرانيين أو العراقيين، الأقرب جغرافيًّا من مدينتي قم والنجف، مركز المرجعية الدينية الشيعية.
لم يخلُ المجتمع السني الإيراني من علماء بارزين، سواء في المناطق الكردية شمال البلاد، أو في بلوشستان وجوارها في الجنوب الشرقي وعلى ساحل الخليج. كذلك الحال بالنسبة للمجتمع السني العراقي، بشقيه العربي والكردي. ولم نعثر على أي سجِّلات تشير إلى سعي هؤلاء للانخراط في جهود التقارب المذكورة أعلاه. لكننا لم نرَ - أيضًا - ما يدل على أن دعاة التقارب الشيعة، قد قاموا بمبادرات تقاربية مهمة مع هذه المجتمعات، مما يمكن وصفه بمشروع عمل. ربما نستثني من هذا التعميم - وإن كان من زاوية مختلفة - مشروع المراجعة الذي أنشأه المرحوم الشيخ محمد بن محمد مهدي الخالصي «1888 - 1963 م». تجربة الخالصي جديرة بالبحث في سياقها الخاص، الذي محوره مراجعة المتبنيات الفقهية، إذ إن توجهات التقريب فيها كانت - حسب اعتقادي - ثانوية.
اتفهم بطبيعة الحال أن تفكير البروجردي والقمي، كان يتَّجه إلى تأسيس علاقة بين زعامة هذا المذهب وزعامة المذهب الآخر. لكني أشعر أن هذا المسعى لم يكن لينجح في تأسيس نهج ثابت يدعمه عامة أتباع المذهبين، بل هو أقرب إلى منظومة علاقات عامة بين النخب العليا هنا وهناك.
مما يؤكد هذا المنحى أن دعاة التقريب وممارسيه، لم يحولوا هذه الفكرة إلى موضوع للتثقيف العام. للإنصاف لا بد من الإشارة إلى أن دار التقريب قد أصدرت مجلة «رسالة الإسلام» [7] ، لكن موضوعات المجلة تشير إلى أنها كانت موجهة للنخبة وليس للعامة.
لو سألني القارئ: ماذا كان على أولئك الزعماء أن يفعلوا، كي يجعلوا قاعدتهم الجماهيرية متجاوبة مع دعوة التقريب وداعمة لها؟.
الجواب: تدريس الطلبة، الفتاوى، معالجة الأفكار التفريقية في الكتب والتراث، إضافة إلى المشاركة في مشروعات عمل ومساعدة دون تمييز. وقد أسلفت الإشارة إلى أن البروجردي اعتاد استعراض أدلة الأحكام، الواردة في المصادر السنية والشيعية في دروسه العالية، إلَّا أن هذه بقيت مبادرة شخصية ولم تتحول إلى منهج سائر في الحوزة العلمية الشيعية، كما لم يحصل نظير لها في مجامع العلم الشرعي السنية.
في اعتقادي أن المرجع الديني قادر على بناء خط قوي يتبنى مبدأ التقارب، لو ركّز على دعوة تلاميذه المباشرين إلى تبني هذا المبدأ. ثمة - إضافة إلى هذا - عامل عميق التأثير، هو مراجعة الأحكام القائمة على أرضية التفارق، وهي كثيرة عند هذا الفريق وذاك. كذلك مراجعة الروايات التاريخية التي تعرضت لتعديل عبر السنين، كي تخدم أغراضًا سياسية أو اجتماعية، على نحو يرجح الميل إلى التفارق بدل التقارب، وأخيرًا مفارقة التيارات الداعية للخصام والتفارق بشكل علني، لتحييدها وسحب البساط الديني من تحت أقدامها. يجب السماح بالتشكيك في تلك الروايات والقصص وإزالة رداء القداسة الذي يرتديه التراث التفريقي، كي يكون نقده أمرًا طبيعيًّا لا يثير الحنق. وهذا عمل لا يمكن أن ينجح إلَّا إذا أتى من الطبقة العليا في المؤسسة الدينية.
لا بد من القول هنا: إن تقديم اقتراحات كهذه، أسهل كثيرًا من تنفيذ أحدها أو بعضها. هذه مهمات تحتاج إلى طاقات كبيرة وزمن طويل، كي تتحوَّل من مبادرة أولية إلى تيار مستقر ومؤثِّر. والواضح عندي أن الاتجاه العام بين كبار العلماء ولا سيما المراجع، يميل إلى المشروعات قصيرة الأمد التي يمكن لهم رعايتها بشكل شخصي، دون الاهتمام كثيرًا بما يجري بعد رحيلهم. إن شعورهم بصعوبة التحكم في مشروعاتهم على المدى الطويل، جعلهم يركّزون جهدهم على المنشآت ذات الطبيعة العقارية، مثل المدارس والمكتبات والمساجد، لأنها الوحيدة التي تظل قائمة على المدى الطويل.
حاولت في الصفحات السابقة إيجاز ما ظننته نواقص أساسية في جهود التقارب التي عرفها التيار الديني الشيعي، والتي نشطت بصورة خاصة في منتصف القرن العشرين، لكن زخمها لم يدم سوى فترة وجيزة، حتى توقَّف تمامًا. هناك بطبيعة الحال عوامل متعدِّدة، أبرزها التنازع السياسي الذي عرفته المنطقة في الستينات والسبعينات، وبلغ ذروته في العقود الأربعة الماضية، حتى بات الصراع على حدود الطوائف والمذاهب، سمة ثابتة في سياسات العالم الإسلامي خلال السنوات الأخيرة، وبلغ التأزُّم درجة أن يدعو بعض الباحثين إلى إعادة تقسيم المنطقة على أساس طائفي، كي ترتاح كل طائفة في كانتونها، فلا تزاحم أحدًا ولا يزاحمها أحد [8] .
بعبارة أخرى فإن مسألة الاختلاف المذهبي، قد تحوَّلت خلال الأربعين عامًا الماضية، إلى مبرّر للتنافر الطائفي. بل لعلِّي لا أبالغ لو قلت: إن الصراع الطائفي بات سمة بارزة في المشهد السياسي العربي خلال السنوات العشرين الأخيرة.
إن تصاعد الموج الطائفي وبلوغه مرحلة التقاتل أو استثماره في التقاتل، هو الذي يعطي لموضوع التقارب المذهبي أهمية مضاعفة وراهنة، وهو الذي يعطي قيمة للمحاولات الجديدة، سيما تلك التي تسعى لتفادي نقاط الضعف في التجربة السابقة.
وفي هذا السياق تشكل تجربة الشيخ حسن الصفار، نموذجًا جديرًا بالتأمل والتكرار. سوف أعرض بعض عناصر هذه التجربة التي وجدتها جديرة بالدراسة، من دون إسهاب. ولعل أحدًا يجد فيها بداية مناسبة للتوسُّع في مناقشة المسألة بذاتها، أو تجربة الشيخ كمثال على جهود التقارب الأكثر انسجامًا مع ضرورات المكان والزمن.
فيما يلي بعض العناصر الرئيسية، التي تؤلّف رؤية الشيخ حسن للمشكل الطائفي وعلاجاته:
أولًا: اعادة تعريف المشكلة:
أشرت فيما سلف إلى أن جهود التقريب التي بذلت في أوقات سابقة، لم تقم على تعريف محدّد للمقصود بالتقريب، هل هو الانسجام السياسي، أم تحديد الخلافات النظرية والسعي للوصول إلى نقاط اتّفاق فيها. الواقع أن عدم التحديد جعل الجهد غير مركّز، فتارة يدور حول أصل الموضوع «الدعوة للتقارب ووحدة الصف» وأخرى يحاول البرهنة على أن «الحق معنا» في هذه القصة أو الحكم... إلخ.
في تجربة الصفار، لاحظت أن المشكل الطائفي كان معرَّفًا بصورة أدق، ولهذا فإن معنى التقارب وحدوده وأغراضه كانت واضحة إلى حد كبير. المسألة - وفقًا لرؤية الشيخ حسن - لم تعد في الخلافات الفقهية والعقيدية، مع أنها تستثمر هذه الخلافات وتستخدمها.
جوهر مشكلة التنازع الطائفي/ المذهبي، يكمن في الخوف المتبادل بين الطرفين. فعلى رغم الاعتداد بالذات والثقة التامة بالاجتهادات عند كل من الفريقين، الشيعة والسنة، إلَّا أن حديث الواقع يخبرنا أن كلًّا منهما كان خائفًا من الآخر. كلا الطرفين كان يخشى اختراق الطرف الآخر لصفوفه. ولدى كل منهما شواهد ومبررات تدعم هذا القلق. لو أردنا وضع هذه الفكرة في وصف سيكولوجي، فسوف نقول: إنه نوع من القلق على الذات أو القلق على الهوية.
وجد الشيخ الصفار أن هذا النوع من القلق، لا يعالج بالنقاش العلمي أو الدعوة لوحدة الصف، بل بالانفتاح الذي يسمح لكل طرف بالتعرف المباشر على الآخر ورؤية دواخله ونقدها إن شاء، إضافة إلى كسر حاجز التباعد الاجتماعي بين النخبة الدينية السلفية ونظيرتها الشيعية.
ثانيًا: كسر الحواجز الاجتماعية:
منذ العام 1995 كان التواصل مع علماء المملكة العربية السعودية شاغلًا يوميًّا للشيخ الصفار. وخلال السنوات التالية التقى بعشرات من كبار العلماء، من بينهم المفتي العام السابق الشيخ عبد العزيز بن باز والحالي عبدالعزيز آل الشيخ، وفقيه مكة محمد بن علوي المالكي، وعشرات غيرهم. كما شارك في مؤتمر الحوار الوطني، الذي أراده المرحوم الملك عبد اللَّه بن عبد العزيز، منبرًا للتعبير عن واقع التعددية القائم في المملكة.
وفي السياق نفسه استضاف الصفار عددًا غير قليل من الأسماء البارزة في المجتمع الديني السني، حتى من بين المعروفين بالتشدُّد، وشجَّع على الحوار المباشر بينهم وبين الجمهور الشيعي، بقدر ما تسمح الظروف. كما شجَّع النخب الشيعية على ملاقاة نظرائهم السنة وزيارتهم في مدنهم، ليس للحديث في أمور الدين، بل أمور الدنيا. ويمكن الاطِّلاع على تفاصيل هذه اللقاءات في الموقع الإلكتروني التابع لمكتبه «saffar.org».
وأستطيع القول دون خشية المبالغة: إنه لم يسبق للقطيف أن استقبلت هذا العدد من علماء الدين السنة والشخصيات المؤثرة، في المملكة العربية السعودية خاصة، كضيوف ومتحدّثين في مناشط أهلية. جرى غالب تلك اللقاءات وسط حضور شعبي، الأمر الذي فتح الباب أمام معالجة العائق الأهم في العلاقة بين الطرفين، أعني به القلق على الهوية والخوف من الاختراق والاحتواء. لعل أبرز ما ترتَّب على هذه الجهود هو ما لاحظناه في السنوات التالية، حين عبر عدد أكبر من النخب الشيعية، وبينهم رجال دين ومثقفون، الحاجز المتوهَّم الذي حال بينهم وبين لقاء نظرائهم السنة في سنوات سابقة.
يهمني هنا الإشارة إلى أن الملاحظة السابقة، لا تستهدف القول: إن تواصلًا كهذا لم يكن موجودًا قبل مبادرات الشيخ الصفار. في واقع الأمر كان هذا موجودًا على نطاق ضيق ومحصور بين نخبة صغيرة. كما أن علماء الدين لم يشاركوا فيه إلَّا نادرًا. وعلى أي حال فإنه حتى هذا القدر القليل، تراجع إلى نطاق أضيق في بدايات مرحلة الصحوة، ولا سيما بين العامين 1982 - 1990 التي شهدت تفاقم التعصُّب الديني، وصدور العديد من المطبوعات التي تكفر الشيعة تصريحًا أو تلميحًا.
ثالثًا: التركيز على الإطار الوطني وتحييد العوامل الخارجية:
منذ سنوات طويلة تأثَّر الجمهور الشيعي في الخليج، بالتوجُّهات الفكرية السائدة في مركز الحوزة العلمية في العراق «إيران في مرحلة لاحقة». كان التمحور حول الذات طابعًا عامًّا للتفكير والكتابة في الحوزة العلمية. التمحور حول الذات يعني ببساطة تضخيم الذات، تنزيهها عن الأخطاء، وتبخيس المذاهب والأديان الاخرى. وللمناسبة فقد وجدت هذا الاتجاه سائدًا في كافة مجامع العلم الديني عند المسلمين والمسيحيين على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، فالكل يفاخر بما عنده ويتحدَّى الآخر، ولو جادله لأعلن الفوز حتى قبل أن تبدأ المعركة.
هذا النوع الذي أسميته تضخُّم الذات، قابله تضخُّم مماثل في الفريق السلفي في المملكة، يحمل المبررات نفسها ويتوسل بالوسائل ذاتها. ونتيجة لهذا فقد خاض الجمهور الشيعي الخليجي معركة افتراضية، سلاحها الوحيد هو فرضية الكمال العقيدي، وكان أبرز نتائجها هو تفاقم شعورهم بالعزلة، في الوقت الذي كانت المجموعات المتطرفة في التيار السلفي تجتهد من جانبها لعزل الشيعة وتهميشهم، أي إن الجمهور الخليجي واجه عزلة مزدوجة، بعضها ناتج عن تضخم الذات وبعضها عن فعل المنافس.
كان المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين «1936 - 2001 م» واحدًا من تلك القلَّة التي انتبهت إلى مخاطر العزلة التي يتعرَّض لها شيعة الشرق الأوسط، ولهذا دعا تكرارًا إلى اندماج الشيعة في النسيج الوطني للبلدان التي يعيشون فيها، أي تأخير الهوية المذهبية عن الهوية الوطنية في ترتيب القيمة [9] .
كثير من الناس اعتبر موقف الشيخ شمس الدين براغماتيًّا. أما الشيخ الصفار فقد وجد فيه اجتهادًا صحيحًا، قائمًا على أرضية متينة وقواعد في الفقه الإسلامي، عميقة الجذور، رغم إهمالها في مجامع العلم الشرعي. ولا شك أن هذا الموقف قد وفَّر دعمًا معنويًّا لرؤية الصفار، الداعية لتقديم اجتهادات جديدة تتناول العلاقة بين المسلمين وغيرهم، بين طوائف المسلمين، وبين المواطنين في أي بلد وحكومتهم.
كانت مشاركة الشيخ حسن في مؤتمر الحوار الوطني «الرياض - ديسمبر 2003» [10] مناسبة نادرة لكسر حواجز عديدة، لبعضها منشأ ديني/ مذهبي، ولبعضها الآخر منشأ اجتماعي أو سياسي، قد لا يتَّسع المجال هنا لاستعراض أكثرها. لكن ما يهمني الإشارة إليه هو حقيقة أن النشاطات التي رافقت ذلك المؤتمر وما بعده، خلقت مناخًا جديدًا في المملكة، في المجتمع الشيعي السعودي والمواطنين السعوديين بشكل عام، وعند النخبة الدينية السلفية، كما تركت أثرًا بليغًا في الأوساط الرسمية. وفي هذه الأجواء الإيجابية - نسبيًّا - طرح الشيخ رؤيته الداعية لاعتماد المصلحة العامة في معناها المحلي «أي مصلحة المجتمع الشيعي السعودي» كمعيار في تحديد القيم الخاصة بالعلاقة بين الشيعة السعوديين ومحيطهم، ونشر حولها العديد من المقالات وضمنها في عدة كتب، كما تحدَّث عنها في الاجتماعات الدينية المختلفة.
مبدأ «المواطنة» كان أحد القضايا المحورية، التي عمل الشيخ حسن على تنسيجها في الوعي العام المحلي. هذا المبدأ ومفهومه ليس راسخًا في الثقافة العامة في المملكة. ولم يتحوَّل إلى مفهوم محوري إلَّا في السنوات الأخيرة. واعتمدت الحكومة برنامجًا للتربية الوطنية في التعليم العام ابتداء من أواخر 1996 [11] .
أما سبب تأخُّر الاهتمام بهذا المبدأ، فمرجعه رؤية فقهية لدى النخبة الدينية في المملكة، فحواها أن الاحتفاء بالوطن والولاء له لا يخلو من إشكالات شرعية، وأنه قد يفهم كمزاحم للولاء الديني أو تشبُّهًا بالمجتمعات غير المسلمة، التي تخصّص لنفسها أيامًا لاستذكار المناسبات الوطنية، وتعتبرها عيدًا وطنيًّا أو يومًا وطنيًّا [12] .
إن مفهوم الوطن حديث الظهور في الثقافة الإسلامية ككل، عند الشيعة والسنة، ولهذا لا تجد بحثًا موسَّعًا حول مفهوم الوطن والعلاقة به، ومبدأ المواطنة والولاء الوطني وترتيبه في سلم القيم، في الأدبيات الإسلامية، بما فيها التيارات السياسية الحديثة. ولهذا فقد كان طرح الموضوع، في الوسط السني والشيعي على السواء، مثارًا للجدل لعدة سنين [13] . لكن يبدو أن المفهوم قد استقر الآن - ولو بشكل نسبي - في الثقافة العامة، عند أتباع المذهبين. لكني مع ذلك أدعو للمزيد من العمل الفكري والتثقيفي كي يتضح عدم التباين بين القيم الدينية ومبدأ المواطنة والولاء للوطن، بل ومفهوم «الوطن» الحديث. إن رسوخ القيم الجديدة يحتاج لجهد كبير ومتواصل قبل أن يصبح جزءًا من النسيج الثقافي العام.
في الوقت الحاضر نستطيع القول: إن الرؤية التي كافح الصفار لنشرها، أي اعتبار مصلحة المجتمع الشيعي السعودي معيارًا في تحديد القيم الخاصة بالعلاقة مع المحيط، قد تحوَّلت إلى تيار واسع النطاق بين الشيعة السعوديين، تتبنَّاه النخبة المثقَّفة في مختلف تجلياتها، كما يتبنَّاها عدد معتبر من رجال الدين. ومن هنا فلم يعد الساعون إلى تجسير العلاقة مع المجتمع السني أو مع النخبة السياسية، يواجهون عنتًا كالذي اعتادوا مواجهته في الماضي، من جانب المتشدّدين والخائفين على الصفاء العقيدي، أو الخائفين من الاختراق الثقافي والاجتماعي.