«خيوط المعازيب».. والذاكرة المنسية
قبل فترة من الزمن ليست بالقصيرة، كنت في حوار مع بعض المخرجين والممثلين الشباب بالأحساء، وأذكر منهم المخرج الشاب الرائع محمد الهليل، كان الحديث يدور في حينه عن حياة الإنسان الأحسائي: عاداته وتقاليده وموروثه التاريخي وطقوسه وعلاقاته بالأمكنة التي صنعت منه ذاكرته.
وقد كان تساؤلي ضمن هذا السياق هو: لماذا عين الكاميرا لا ترتاد مثل هذه المجالات ولا تذهب إلى استلهامها في أعمال درامية وكوميدية بالخصوص أنها حياة خام فيها من الثراء والغنى ما يجعل أي عمل سينمائي أو وثائقي أو تلفزيوني يمكن الرهان عليه إذا ما توفر له الدعم المادي والمعنوي والإرادة حين تسعى إلى تحقيقه؟
وما يعزز هذا الرهان أن الأحساء بشبابها المبدع يمتلك طاقات إبداعية هائلة، سواء على مستوى التمثيل أو الإخراج أو التصوير أو كتابة النصوص والسيناريو.
كنت أرى الشغف في عيونهم كالبرق، وأشاهد الرغبة في التعبير عن ذواتهم ومجتمعهم وجيلهم من خلال الفن كالريح تكاد تسمع صوتها ترتطم في تجاويف رؤوسهم.
أني أستعيد هذه الواقعة الآن لأسباب، أهمها هو أني أريد ربطه بمسلسل «خيوط المعازيب» الذي حقق نجاحا باهرا على مستوى التلقي أو المشاهدة أولا، وعلى مستوى التمثيل والإخراج والقصة ثانيا، لكني سأترك الحديث عن المستوى الثاني لمقال آخر، وأركز هنا على المستوى الأول.
عندما شاهدت المسلسل - أجزاء منه في رمضان وأعدت مشاهدته كاملا بعد رمضان - أصابتني لعنة الذاكرة، وكأن نهرا جارفا من الحنين قد انشق من الجدار وقذف بي في حارات الكوت في نهارات وليالي أيام السبعينيات الميلادية. كنت حينها في عمر لم يتجاوز سن العاشرة، أذرع الطرق الترابية الملتوية والضيقة بين مجلس جدي حائك الغزل «حسن الحرز»، الملقب بالمشهدي الكائن في مدخل الكوت من الجهة المقابلة لسوق القيصرية، وبين مجلس المعزب حسين الحرز الملقب «حريزي» الذي يبعد عن بيتنا مسافة ثلاثمائة متر مربع من داخل الحارة.
لقد قضيت شطرا من طفولتي بين هذين المكانين، ولا يغيب عن بالي أبدا منظر الرجال وهم يتوافدون من الحارات المجاورة لأخذ الغزل لحياكته أو لخياطة البشت في الأماكن المخصصة لهم في المجلس، اللغة البصرية للمسلسل بجميع أبعاده أتاحت لذاكرتي أن تستعيد من أعماقها أحداثا كنت قد نسيتها تماما لولا تلك المشاهد، كان النسيان طمرها ولا أمل لها بالظهور.
أن عودة الذاكرة من النسيان لها وظيفة في غاية الأهمية في حياة الإنسان خصوصا إذا جاءت من جهة الفن فهي تجدد خلاياه بالسعادة «وهي بالنسبة لي أعلى مرتبة من تعبير الفرح الغامر لأن السعادة يمكن تبريرها من خلال الوعي»، وهذا ما شعرت به تماما، السعادة التي لا تعلم من أين تلبستك أو كيف غمرتك بمياهها دفعة واحدة؟ وهذا ما يدفعني للقول إلى أن من أهم مقومات ونجاح المسلسل من وجهة نظر التلقّي تحديدا هو أمرين اثنين، الأول منهما هو قدرة العمل على استرجاع ذاكرة الناس في طزاجتها وحرارتها ليس المرتبطة منها فقط بمهنة البشت بل بكل أبعاد الذاكرة الاجتماعية والثقافية والمكانية واللغوية والحسية والشمية، ملامسة هذا الجانب من الذاكرة هو في حد ذاته ملامسة وجدان الناس، ولا يمكن الوصول إلى قاع وجدانهم إلا بأعمال درامية قوية تستنهض كل ما كان نائما من حياتهم وفيه قيمة يعتزون بها وهو بحاجة للتعرف عليه للأجيال اللاحقة، وهذا ما يقودني للأمر الآخر وهو أن هذا العمل نبّه المشهد الدرامي في ساحتنا الفنية الصاعدة بقوة إلى أن المرجع الحقيقي والمهم للدراما السعودية وتطورها ينبع من الحياة ذاتها من تاريخهم وموروثهم الذي حمل آلامهم وأفراحهم وأحزانهم.