سوق العمل السعودية والتهيؤ للثورة الصناعية الخامسة
شهدت الثلاثمائة سنة الأخيرة تحولاً جذرياً في نظرية العمل، من الاعتماد على القوة البدنية إلى الاعتماد على قوة وذكاء الآلة، وحققت البشرية نتيجة لذلك مكاسباً“أُسية”. في الإنتاجية. وهكذا، غدا العمر والأقدمية ليسا العامل الحاسم في اكتساب حق الترقية والبقاء على كرسي الوظيفة، فالقواعد تتغير وفي طريقها لمزيد تغيير وبوتيرة متسارعة بما يصعب اللحاق به إلا بخطط محكمة وبعزيمة وإصرار..
لنعرج على ما حدث. أطاحت الثورة الصناعية الأولى بالعديد من الحرف اليدوية نتيجة لإحلال الآلة محلها وخلقت في الوقت ذاته وظائفاً تتطلب مهارات جديدة، في حين أخرجت الثورة الصناعية الثانية الآلة المفردة لتحل محلها نظم الصناعية المعقدة، التي تقوم على الإنتاج الغزير «mass production»، وخلق هذا وظائفاً جديدة بمهارات لم تكن معروفة من قبل تقوم على التخصص الدقيق، وأزاحت الثورة الصناعية الثالثة النظم المعقدة لتجعلها أكثر تعقيداً وأكثر مرونة نتيجة لتمكنها القيام بعمليات صناعية تنطوي على ذكاء، وهذا ما يعرف“بالروبوتات”. أما الثورة الصناعية الرابعة، التي نعايشها فترتكز إلى الرقمة والأتمتة المدعمة بالذكاء الاصطناعي، وقد جلبت هذه الثورة تهديدات عدة لسوق العمل كما كانت معهودة، منها التحول إلى وظائف تتطلب مهارات في تحليل البيانات وحمايتها، وأعمال الاقتصاد الرقمي الحر «gig economy»، مثل وظائف توصيل الطلبات حيث لا وظيفة ثابتة وحماية اجتماعية «مثل اشتراكات اجبارية للتقاعد».
وقبل الستينيات من القرن الماضي لم يكن للتقاعد وجود في جنبات مملكتنا الغالية، فما أن يفطن الطفل لما حوله حتى يأخذه أهله إلى الكتتاتيب ليحفظ القرآن الكريم وأصول القراءة والكتابة ومباديء الحساب، وما أن يتخرج من هناك حتى يأخذانه إلى أحد يدربه على مهنة حتى يتدرج فيها وتحت إشراف المُعَلّم أو الاستاد أو المعزب أملاً في أن يجيدها، لتكون مصدراً للدخل له ولأسرته، وما أن يخط شنبه حتى يختاروا له عروساً ويفردوا له غرفة في إحدى زوايا المنزل، في حين يحلم في أن يتخرج من تحت سطوة معلمة لينفرد بمنجرة أو محل حدادة أو حياكة. هذه المسيرة المهنية تلاشت ولم يعد لها أثر تقريباً، ولم يعد يذكرها أحد، إلا في الدراما كما حدث - على سبيل المثال - في مسلسل“خيوط المعازيب”وصناعة البشوت التي تغيرت وحل الكمبيوتر إحلالاً ضخماً محل الخياطة اليدوية.
وأبلغ شاهد على تأثير الثورات الاقتصادية المتتابعة التي اجتاحت العالم، هو ما عايشته المملكة على مدى أقل من قرن من الزمن، بعد اتجاه اقتصاد المملكة نحو التمدن والتنوع بدخوله الكبير في صناعة النفط، وبعد ذلك في توظيف عوائد النفط لتطوير البنية التحتية الاجتماعية - الاقتصادية وتأسيس اقتصاد منوع. هذا تطلب وضع سياسات ونظم بما في ذلك نظام للخدمة المدنية ونظام العمل ونظام للتقاعد المدني والأهلي والعسكري.
كيف سيكون وضع سوق العمل في الثورة الصناعية الخامسة؟ ليس واقعياً الظن - مجرد الظن - أن الوظائف وأسواق العمل هنا أو في أنحاء العالم لن تتأثر نتيجة للتطورات التقنية العاتية، فنحن على أعتاب الثورة الصناعية الخامسة. الثورة الصناعية الخامسة تحمل تغييراً اقتصادياً هائلاً مرتكزاً على تقنيات الذكاء الاصطناعي، أم حسبتم أن الذكاء الاصطناعي التوليد سيؤلف الكتب والمقابلات ويعد العروض المرئية من أجل التسلية! وأن صناعة الروبوتات تهدف إلى ما نشاهده من استعراضات لروبوتات الألعاب في ممرات الفنادق ومنصات المؤتمرات والفعاليات؟ باختصار سوق العمل ستتغير في غضون سنوات قد لا تتعدى أصابع اليدين تغييراً ملموساً، يستدعي الأجيال الشابة الحرص على اكتساب المهارة القائمة على المهارة والابداع، وليس على الوظائف الإدارية والاشرافية الرتيبة التي تعتمد على الترقية باعتبار الأقدمية، كما هو معمول به في الخدمة العامة وعدد من الشركات التقليدية.
بإيجاز، تخلق كل ثورة صناعية وظائف جديدة وأدت إلى إزاحة وظائف أخرى. والتحدي الذي ما برح شاخصاً هو التكيف مع المهارات المتغيرة لسوق العمل، إذ يتطور الطلب على المهارات باستمرار، ما يعني استعداد القوى العاملة للتعلم وتحسين المهارات طوال حياتهم المهنية. وتؤدي الأتمتة المتعاظم مع كل ثورة صناعية إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل، بالتحيز الفادح نحو التقدم التقني على حساب النظم متدنية الانتاجية. وهذا يعني بالاجمال، مواجهة الحكومات لتحدي للإسراع في اجتراح سياسات لدعم تدريب وتأهيل وإعادة تمهير العمال، وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي، وإدارة تأثير الأتمتة على قوة العمل لتفادي تفاقم البطالة وللحفاظ على معدل متنامي للإنتاجية وبالتالي تنافسية اقتصادها. لقد أعادت الثورات الصناعية الأربع الأولى تشكيل سوق العمل بشكل جذري. ولن تكون الثورة الصناعية الخامسة استثناءً، ما يعني أن الاصرار على الالتصاق بالمراتب والدرجات والسلالم لن يأخذنا بعيداً في الاستعداد لتحقيق أكبر مكاسب لقوة العمل السعودية لتكون رأس حربة في تحقيق مكاسب حقيقية للاقتصاد ولمستوى الدخل. وبالمقابل علينا التحول إلى الوظائف الجديدة المعتمدة ليس فقط على مهارة الشخص في مجاله بل في مهارته في التكامل، نعم التكامل، مع الآلة ليتعاونا سوياً في انتاج خدمة أو سلعة، وبذلك نكون قد ولجنا الثورة الصناعية الخامسة باقتدار. «يتبع»