أربعون مؤمناً
يرتبط رقم أربعين عند بعض الناس بقصة علي بابا والأربعين حرامي. شخصياً، بعد استئنافي لصلاة الليل من بعد انقطاع زمني طويل نسبيّاً بسبب تقلبات صحية وضغوط أعمال مترادفة. ولمن تعلّق بأداء صلاة الليل يعلم بأن من مستحبات قنوت ركعة الوتر أن يستغفر المصلي لأربعين مؤمناً ”بأن تقول اللهم اغفر لفلان… اللهم اغفر لفلان …. إلخ“ وبعد ذلك الاستغفار لنفسه ”استغفر الله ربي وأتوب إليه“ سبعين مرة ثم القول ”هذا مقام العائذ بك من النار“ سبع مرات ثم القول ”العفو“ 300 مرة ويتم أداء الصلاة. وخلال أداء القنوت وذكر أسماء أربعين ”40“ مؤمن استحباباً، يردّ شريط صور لأشخاص عديدين مقرّبين من قلبي ما بين أقرباء وأصدقاء أوفياء. إلا أن بعضهم غادروا الدنيا إلى الدار الآخرة، فأحتبست دمعتي على فراقهم. وأجرت دمعتي لصالح الخوف من الله وخشية خسران العمل الصالح في الدنيا وبلوغ انتهاء الأجل قبل بلوغ الأمل. ومع كل إعلان عن مغادرة أحد الأقارب أو الأصدقاء للدار الآخرة، أقوم بالتفتيش عن أسماء جديدة من الأحياء من أهل الصلاح والفلاح والوفاء والوصل لإدراجهم ضمن قائمة المشمول ذكرهم خلال قنوت صلاة الوتر وطلب المغفرة لهم من الله.
لعلّ أكثر شيء أخشاه على نفسي عندما أرى أحداث الدنيا المتسارعة على مسرح الحياة هو كثرة محبيها وطلابها والواقعين في مصيدتها وكثرة دروب الانزلاق وانتشار طرق الإغواء هو أن تميل نفسي لما مال إليه العاصون. فأبذل جهدي وأربي وأروض نفسي على حسن تقوى الله والتعلق به والتأمل في آياته في الكون وفي القرآن الكريم. ومن جملة التأملات، كنت وما زلت أتأمل الآية القرآنية الكريمة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: آية 20 - 23]
والآية القرآنية الكريمة الأخرى:
﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: آية 44].
تعددت كتب تفسير القرآن الكريم وذلك في محاولات جادة ومعمقة من كتّابها لرصد المقاصد الإلهية وتحديد المطلوب ومن ثم توظيف العمل بذلك المفهوم لنيل رضا الله جلّ جلاله. وكان من ضمن تساؤلاتي مع نفسي:
ما هو الرابط بين الدواب والسمع؟
هل هناك دواب شر ودواب خير عند الله؟
هل مفردة ”الدواب“ ذات دلالة رمزية بناءً على السلوك أم لغوية صرفة؟!
فهمي الشخصي للآيتين يُقرأ هكذا: أنّ الدواب تنحني لتأكل ويكون همّها علفها وتُهمل عقلها وتُتيح الفرصة لكلّ آخر أن يمتطي ظهرها ويسوقها حيث يريد هو. وحينما يمتطي كلّ ذي مقاصد ظهرها ليسوقها حيث يريد وهي صمّ بكم فقد سُلبت إرادتها وعُطّل عقلها وأُلغيت إرادتها في التعبير والتحدث. وإذا افترضنا أنّ الدواب إشارة للأراذل من أبناء البشر، فمن السياق يمكن القول أنّ العزّة هي فيصل بين الدابة الشريرة والإنسان المحترم المعبّر عن إرادته والساعي للخير. ويعضد ذلك المفهوم قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: آية 55].
وأرجّح لبلوغ مستوى النّبل الإنسانيّ الرّفيع يحتاج الإنسان أن يتبنّى استراتيجيات متعدّدة داخلية في ذاته وخارجية مع محيطه. ومن الاستراتيجيات الخارجية مع المحيط، أذكر بعض عناصر تلك الاستراتيجية:
1. دعم كلّ مظاهر التّعفّف والاحترام والدّين السّليم والتّسامح والحبّ والتّدين واحترام الجيران واحترام حقوق الآخرين وحقوق الطّريق.
2. غرس مفهوم الابتعاد عن الظّلم والنفور من الفسوق وأهله وتفادي استخدام الألفاظ النّابية.
3. تشجيع أهل البرّ والصّلاح والمبادرات الهادفة لتأصيل أعمال الخير داخل المجتمع.
4. تشجيع أفراد المجتمع على إذكاء المحتوى الثّقافيّ والأدبيّ والأخلاقيّ والعلميّ الهادف.
5. نبذ أيّ مظاهر للعنف أو العنصرية أو المذهبية أو المناطقية والإعراض عن الانخراط في أيّ مهاترات.
6. الابتعاد عن أيّ شيء يستنزف الوقت والموارد سواء كان التّطبيقات الاجتماعية أو مجالس البطّالين أو مشاهدة أهل المجون أو الإفراط في الأكل أو إهدار المياه أو مجالس النّميمة.
7. تجنيب المناوشات ومواطن الاستفزاز ومواطن التّراشقات الكلامية اللاذعة ومواطن الشّبهات وكافيهات وتجمّعات أهل الفسوق وتراشقات التّويتر.
8. مدّ يد التّعاون والتحفيز لأعمال البرّ والتحالف مع أبناء المجتمع وأبناء الوطن الأخيار لكلّ أعمال ومبادرات الخير.
9. التّرفّع عن سفاسف الأمور والتّعلّق بما عند الله والسّعي لحفظ مسافة متساوية من الجميع.
10. التّعاطف قولاً وفعلاً مع أصحاب الحظّ المتدنّي في المعيشة والمهمّشين بالقدر المستطاع.
11. تجنّب الاستحواذ على المجالس والأنشطة والبرامج في أيّ تجمّع أسريّ أو داخل الحيّ أو ضمن دائرة المجتمع.
12. تجنّب فرض أيّ قرارات ضدّ الآخرين أو التّصادم مع أيّ أحد أو توجيه أيّ إهانة ضدّ أحد.
13. احترام الخصوصية وتفادي التّطفّل وبذل الجهد لاحتواء الجميع حتّى من أخطأ في حقّك سابقاً ومن دون إحداث أيّ ضجيج.
14. تفادي مظاهر إبراز الشّخص لشخصه وترويض النّفس على التّواضع وتفادي مظاهر النّفاق والرياء.
15. عدم التّدخل في شؤون الآخرين إلاّ إذا طُلب منهم بهدف إصلاح ذات البين أو الاستشارة.
16. إلغاء خاصّية الانتقام والتركيز على استثمار الوقت والموارد لبلوغ الأهداف السّامية والتّفوّق.
وباختصار المؤمن من سلم الناس من يده ولسانه. فهذا يستحقّ أن يُدرج في قائمة قنوت صلاة الوتر في جوف اللّيل. وأدعو الله أن يُدرجني الأحبّة في قائمة الأربعين مؤمن عند صلاتهم صلاة اللّيل. وختاماً نورد الدّعاء التالي:
اللّهمّ مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالاَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، وَلا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، وَأَجِرْنِي مِنَ النّارِ بِرَحْمَِتكَ. اللّهمّ امْدِدْ لِي فِي عُمْرِي وأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِي، وَانْشُرْ عَلَيَّ رَحْمَتَكَ، وَإنْ كُنْتُ عِنْدَكَ فِي اُمِّ الكِتابِ شَقِيّا فَاجْعَلْنِي سَعِيداً، فَإنَّكَ تَمْحُو ما تَشاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتابِ.