الدعوة إلى استنطاق ”النّصّ“
للنّصّ سلطة على قلب ووجدان وعقل القارئ، فهنالك من يفهمه بصورة عميقة، ومن يرفضه لأول وهلة، ولكل فرد هنا قابليته ومستواه المعرفي والإدراكيّ.
إنّ تعدد القراءات للنّصوص الدينية على مر التأريخ جعلتها نصوصًا حيّة وقابلة للتجدد وحفظت حضورها ومكانتها وقدسيتها. ولعلّ مركزية هذه النصوص في حياة معتنقي الديانات جعلتهم في حاجة ملحّة ودائمة لقراءة وفهم وتفسير هذه النصوص.
ولكن الدعوة إلى قراءة ”معاصرة“ للنص الديني لا بد أن تستند إلى الأسس العلمية والمنهجية لا كما تقرأ النصوص البشرية العادية.
فالمفكر والباحث حين يقدم قراءته على طاولة البحث، ويرفع مشرط النقد والتقويم يجب عليه أن يوضح الأدلة والمناهج التي تبناها وقادته إلى هذه النتائج.
يصطدم المفكرون والباحثون عن الحقيقة بالكثير من التساؤلات والشكوك والتكهنات، ومن العبث برأيي أن تترك تلك الأسئلة معلّقة في الهواء أو على حبل الغسيل الذي تعلّق عليه أيضًا الثياب الممزقة للمتلاكمين عفوًا المتحاورين في بعض البرامج الحوارية الدينية التلفزيونية!
النّصّ الدينيّ ليس حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة ليقحم المفكر رأيه الشخصيّ فيه دون تدبر وتأمل. هو مصدر من مصادر المعرفة عند المتدينين، وله خصوصياته.
فحين نتعامل مع النص الديني نحن بحاجة إلى فهم اللغة والإطار التاريخي «الزماني والمكانيّ» والفكري، والظروف الاجتماعية والفكرية السائدة التي تزامنت مع صدور النّصّ.
الفهم حاجة إنسانيّة بالغة الأهمية يسعى من خلالها الإنسان لاستنطاق النصوص بغية تفكيك ما تعنيه، ولعلّ المشروع الهيرمنيوطيقي قد تأسس في بدايته لرغبة أصحابه في فهم النصوص ومعالجتها «وهو لفظ إغريقي يعني فن التأويل».
لا أفهم مثلًا ولا أجد مسوّغ لمفكر أو باحث يريد إسقاط مقاييسه على النصوص الدينية، ويبني عليها استنتاجات خاصّة دون مبرر معرفي أو دليل، فيلوي عنق النصوص جاهدًا حتى يشكّلها وفق آرائه واستحساناته.
لا شك أن هنالك الكثير من المناطق غير المأهولة في الفكر الإنساني والديني، ومن الواجب على كل صاحب عقل نيّر أن يفتح مغاليقها ويعبر دهاليزها بحذر وخفّة.
النّصوص الدينية المقدسة ليست أساطير قديمة كتلك التي تحدثت عن بروميثيوس حين سرق نار الرب «جل وعلا» ومنحها للبشر أثناء غرق الأرض في الظلمات، والتي عاد النور ليشرق فيها من جديد بعد سرقة بروميثيوس الذي انتهى به الأمر كما تروي الأسطورة مقيدًا بسلاسل الحديد عقابًا من إلهه على سرقته!
الدعوة إلى إعادة تدوين وقراءة التراث والدين دعوة محمودة، ولكن دون تطبيق صحيح، فهي لن تكشف عن باب موصد، وقد لا تشرح فص من فصوص الحكمة أو تعالج دلالات وظواهر، بل لعلها تغلق أبوابًا أخرى أمامنا عوضًا عن فتحها.
للقارئ العزيز أن يتساءل هنا: هل فهم النّصّ مقدّمٌ في أهميته على اللغة وتفسير ذلك النص؟ وما دور الفرضيات والقناعات المسبقة في فهمنا للنص؟ أليس من الواجب أن يتجرد العاقل في فهمه عن أي فرضيات مسبقة ليصل إلى جادة الحقيقة؟ هل للمفسّر للنّصّ الديني أن يأوله كما - يشتهي ضاربًا بالمحكم والمتشابه ولغة الوحي وغيرها من الضوابط عرض الحائط؟
كم نحن بارعون في إظهار حنقنا وغضبنا من «حرّاس الهيكل العقيدة المحاكم الكنسية وكل محاكمة أخرى للنوايا والأفعال»، ولكننا لا نجرؤ في الكثير من الأحيان على الانفتاح على النص ومحاولة فهمه عوضًا عن نبذه والتنّكر له، فهلّا فعلنا ذلك؟