آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 3:07 م

مرثية رجل عالي الهمة..

جعفر العيد

مهداة لروح الفقيد المؤرخ والباحث الأستاذ عبد الخالق الجنبي

تقدمة:

منذ اليوم الأول لسماع خبر وفاة الكاتب والمؤرخ عبد الخالق الجنبي، تلبسني عنوان رواية الكاتب السوري الشهير حنامينه «نهاية رجل شجاع» فصرت أصارع نفسي لتغيير هذه اللّازمة الذّهنية. وفي الواقع يتشابه فقيدنا عبد الخالق الجنبي مع بطل رواية حنامينه من حيث الشجاعة والتحدي، والفروقات كثيرة، وأولها وأهمها أن بطل الرواية هو متخيل أكثر مما في شخصيتنا من شواهد حية رسمها المرحوم من خلال شخصيته الوثابة وشجاعته الأدبية، والفارق الأهم هو أن بطل رواية «نهاية رجل شجاع»، انتهت حياته بالانتحار، بعد أن أصبح فترة طويلة معاقًا وجالسًا على الكرسي.

بينما رحل فقيدنا مؤمنًا صابرًا محتسبًا الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، بالرغم من كل ما عاناه من أوجاع الإعاقة والمرض، والآلام الشديدة التي صاحبته إلى ساعة وفاته.

كل هذه الأشياء أوصلتني إلى إطلاق كلمة الرحيل بدل النهاية، وكلمة التبتل بديلًا عن التسامي كما يتضح ذلك في السطور التالية.

معاناة البحث والكتابة:

ترك رحيل الكاتب والمحقق عبد الخالق فراغًا كبيرًا لدى أهلهِ، وزملائهِ وأصدقائهِ وأحبائهْ.. ومنطقتي الأحساء والقطيف بشكل عام.

ذلك أن المرحوم يعدُّ من الكفاءات، والطاقات التي تتناقص وتفتقد يومًا بعد يوم في بلادنا.

عانى فقيدنا الكثير من الصعوبات والمتاعب، سواء على صعيد حياته الشخصية، وعانى من خلال إنجاز أعماله الكتابية وتصريفها كأي مشتغل بالشأن الثقافي المحلي، خصوصًا أنه من أولئك النفر الذين أخذوا على عاتقهم تحقيق التراث الثقافي والاجتماعي في بلاد القطيف والأحساء، أو البحرين «كما تسمى سابقا».

ناهيك عن التكاليف التي يتطلبها البحث والكتابة، وملاحقة المخطوطات والوثائق المتعلقة بهما.

فبعض هذه المخطوطات قد يحتاج الحصول عليها السفر إلى بلاد بعيدة، وبعضها قد يتطلب شراء هذه الوثائق، أو دفع بعض المال للحصول عليها.

سليل الأسرة الطيبة:

من المعروف أن قبيلتي بكر بن وائل، وعبد القيس هما الوجهان الواضحان في المناطق «القطيف، الأحساء، البحرين، البصرة» إضافة إلى المتلون القبلي المتواجد في هذه المنطقة. وكل من بكر بن وائل وعبد القيس فرعان من قبيلة ربيعة الأم.

ولأن هذا الموضوع نوقش كثيرًا، فنكتفي بالإشارة إليه فقط.

ينحدر المرحوم الجنبي من أسرة تنتمي إلى منطقة القديح، إحدى مناطق القطيف المهمة والعريقة، وقد كانت عامرة بالعيون والنخيل، ولهذه المنطقة سماتها الجميلة المميزة لها.

ونظرًا لتزايد أعداد السكان وقلة الأراضي القابلة للسكن جعل الكثير من أهالي القديح البحث عن مناطق أخرى، ومنهم أسرة المرحوم عبد الخالق انتقلوا إلى حي الفتح في جزيرة تاروت «الدخل المحدود سابقاً» ككثير من الأسر القديحية الكريمة. وكانوا إضافة جميلة زينت التجمعات السكانية في الجزيرة. وكل هذه المناطق أجزاء من منطقة القطيف الكبرى.

لقد جمعني الطالع السعيد، والعمل في وزارة التعليم، والمشاركة في النشاط المدرسي الطلابي في الصيف للاختلاط بوجوه هذه الأسرة الرائعة، والحسنة التعامل مع كل الناس بأريحية وبساطة، كما هي السجية العامة لجمهور الناس في منطقة القطيف.

وقد تشرفت شخصياً بالعمل والتعامل مع أكثر من شخص من هذه الأسرة مثل «الأستاذ محمد أبو منتظر» «الأستاذ حسن أبوعلي» «الأستاذ سعيد أبو ماجد»، إضافة إلى المرحوم عبد الخالق.

كانوا قمة في الأخلاق إلى درجة تمكننني من القول بكل ثقة، أنك لن تجد أحداً من أسرة الحاج عبد الجليل الجنبي سيئ الخلق. الله يحفظهم ويرعاهم جميعا.

المرحوم عبد الخالق... إنسان متبتل:

لقد اخترت كلمة متبتل اسم الفاعل من تبتل بمعنى الزهد، والخشوع والإخلاص في العمل لله سبحانه وتعالى.

أرى أن هذه الكلمة أقرب إلى واقع المرحوم عبد الخالق الجنبي من الكلمات الأخرى، مع تسليمنا بوجود كلمات ومصطلحات متعددة نابعة من تخصصي علم النفس وعلم الاجتماع.

التسامي مصطلح ليس سيئ بالكامل، فهو يعني الإبدال أو الاتجاه إلى الأعمال السامية... أو إنه ترفع عن الضغوط التي يتطلبها الجسم والشهوة إلى أعمال أخرى مثل الرياضة، أو الكتابة، وغيرها.

فالمرحوم وبعد أن وعى واقع الإعاقة لديه، أغلق موضوع الزواج عن باله وخاطره، متجهاً اتجاهاً إيجابياً للمطالعة والتحصيل والكتابة والتوثيق، استفاد منها البلاد والعباد. وكل هذه الأعمال يعتبرها خالصة لوجه الله تعالى، فهذا «لعمري» هو التبتل، الذي قلنا أنه يعني الخشوع لله سبحانه وتعالى.

انتقل إلى رحمة الله والقلم في يده:

كان المرحوم عبد الخالق إضافة إلى أخلاقه الرائعة يحاول الخروج عن أنانية الكتّاب، الذين عادة ما يتصفون بشيء من الأنانية، لا يرون فيها إلا أنفسهم.

فلقد تعاون المرحوم الجنبي مع الباحثين الشيخ عبد الغني عرفات، وعلي البيك، فأنجزوا تحقيقاً مهماً لديوان ابن المقرب العيوني، وزاد وعدل في عدة طبعات، فأصبح إضافة مهمة في مكتبتنا العربية والخليجية. وتشير إلى الجهد الجماعي التي تعتبر من سمات العصر الحديث.

ناهيك عن مؤلفاته الأخرى عن المشقر وغيرها من الآثار في منطقتي الأحساء والقطيف.

لقد عرف أن المرحوم انتقل إلى رحمة الله تعالى والقلم في يده... وهذا الكلام نورده اصطلاحاً للتعبير عن واقع الشخصيات، فمن الملاحظ أن المرحوم يطبع في العام كتابا، وفي بعض الأحيان يخرج لنا في العام مؤلفين مطبوعين، ناهيك عن الإعادات والتصحيحات، والتعديل الذي يسبق الطبعات.

هناك كتاب قد أنجزه ودققه وهو على فراش المرض، «هكذا عرفت من أسرته» نأمل أن يرى هذا الكتاب النور قريباً، ليستفيد منه الناس، وفي الواقع تستحق جميع كتابات عبد الخالق العناية بها، وإعادة طباعتها خصوصا تلك التي نفدت من البلاد سريعا.

رحم الله الكاتب والمحقق عبد الخالق الجنبي، خلف الله على أهله وذويه بالخلف الصالح... ووفق الله بقية الكتاب والمبدعين في بلادنا القطيف والأحساء والبحرين لتقديم الكثير من إنتاجاتهم... والله الموفق.