تجربتي الإسكندنافية
زرت مع عائلتي الشهر الماضي، ثلاثة بلدان إسكندنافية هي الدنمارك والسويد والنرويج. كانت رحلة سياحية ممتعة وثرية وفريدة جداً، وشعرت معها ولأول مرة الرغبة في الكتابة وتسجيل ملاحظاتي وانطباعاتي الشخصية خلال الرحلة، التي قد أرجو أن تكون محل قبول من القارئ، وأن يجد فيها المتعة والفائدة معاً إن شاء الله.
أحب التذكير أن الهدف من المقال ليس ذكراً أو وصفاً للأماكن السياحية التي زرتها، ولكن سيكون سرداً عن انطباعاتي ورأيي وما لفت انتباهي من خلال مشاهداتي، وتسجيل بعض الملاحظات والمقارنات التي أرى فيها الفائدة للقارئ.
في البداية، أجد من الضروري والأخلاقي ذكره والتأكيد عليه قبل الشروع في سرد تجربتي السياحية، وهو تسجيلي الرفض القاطع والإدانة الكاملة للممارسات الشنيعة التي جرت في السويد والدنمارك، من إساءة لكتاب الله العزيز تحت ذريعة حرية التعبير، وهي جريمة وانتهاك للمقدسات يجب على المسلمين التصدي لها بكل قوة وحزم.
عادة عندما نسمع كلمة اسكندنافيا، تقفز في مخيلتنا صورة رجل الفايكنغ الوثني الهمجي الشرس المحب للغزو والنهب وسفك الدماء، وهذا صحيح، ولكن في الواقع إن حقبة الفايكنغ قصيرة نسبياً فهي تقع بين القرن الثامن الحادي عشر الميلاديين، وبعدها تحولت هذه الشعوب إلى النصرانية والتمدن، ولكني حرصت على زيارة متاحف الفايكنغ في الدنمارك والنرويج للاطلاع على ثقافتهم وعاداتهم وتجارتهم، واستفدت في تكوين صورة جيدة عنهم، وعن طرق بنائهم للسفن التي تميزوا بها.
دخلت شعوب اسكندنافيا، وهي شعوب جرمانية شمالية، ولها جذور ثقافية وعرقية مشتركة مع بقية شعوب شمال أوروبا في النصرانية في وقت متأخر نسبياً، نحو نهاية القرن العاشر الميلادي، لذلك نسبة التدين منخفضة جداً في هذه البلدان، حتى أن 70% من شعب السويد يعرّف نفسه على أنه ملحد أو لا أدري، حتى قيل أن التدين يتناقص في أوروبا كلما اتجهت شمالاً. تعاني شعوب هذه البلدان من حالة الفردانية، ربما لطبيعة الثقافة المنتشرة بينهم وعدد السكان القليل في مساحة واسعة. أتذكر خلال جائحة كورونا، صرح مسؤولون سويديون بعدم الحاجة لفرض التباعد الاجتماعي على الشعب لمكافحة انتشار الفيروس، لأن طبيعة الشعب فردانية، ولا يميلون للتجمع واللقاءات.
كثير من الناس في منطقتنا يتمنى زيارة هذه البلدان، لكنه يصرف النظر عنها، بسبب غلائها الفاحش، وهذا صحيح فهي من أغلى بلدان العالم، ولكن إذا اتبع السائح الطرق الذكية في التخطيط المسبق لرحلته وحجز منذ وقت كاف تذاكر الطيران السكن والأنشطة السياحية، واختار الوجهات بعناية ودقة، قد يستطيع خفض التكلفة إلى حد ما، ولكنها تظل بلدان مكلفة جداً للسياحة.
كافة شعوب هذه الدول يتقنون اللغة الإنجليزية بدرجة ممتازة، ولا يجدون حرجاً في الحديث بها، فهي اللغة الثانية عندهم، وهذا مريح جداً للسياح بطبيعة الحال، خلاف بعض الدول الأخرى مثل فرنسا أو ألمانيا أو إسبانيا.
تتمتع شعوب هذه الدول بحسن التعامل مع السياح، فلم تواجهني أي مشكلة طيلة سفري ولله الحمد، ومستوى الأمان عالي، حيث إن حالات النشل والسرقة نادرة في هذه البلدان.
لاحظت منذ اليوم الأول شيوع استعمال البطاقات البنكية في كل مكان، فلم استخدم النقد طوال أيام السفر في البلدان الثلاث، ورجعت به، وإن كان من الضروري وجوده للاستخدام الطارئ.
الدول الإسكندنافية تتربع على عرش العالم في معظم مؤشرات الرفاه الاجتماعي، مثل الخدمات الصحية والتعليم والأمان والبنية التحتية ومستوى الدخل والضمان الاجتماعي، ولكن هذا ليس من دون ثمن، فالضرائب باهضة جداً تصل في بعض الأحوال إلى 60%? من الدخل. مستوى الرفاه العالي عندهم يرجع إلى عدد السكان القليل حتى لا يتجاوز عدد سكان الدول الثلاث عن 23 مليون نسمة، وإلى السياسة الرشيدة والحكيمة التي تدير بها حكومات هذه البلدان ثرواتها ومواردها بطريقة ممتازة، فالنرويج مثلاً بدأت تصدير النفط نهاية السبعينيات، لكنها استغلت هذه الثروة الجديدة، في بناء أكبر صندوق سيادي في العالم، بموجودات تقدر بأكثر من 1,3 تريليون دولار، ولا يفوتني هنا ذكر أن الفضل بعد الله في حيازة النرويج وحسن إدارتها لهذه الثروة يرجع للعراقي فاروق القاسم مهندس النفط، الذي كان السبب في اكتشاف النفط في النرويج، واقتراحه على الحكومة النرويجية إنشاء صندوق استثماري لعائدات النفط، فكل نرويجي اليوم يدين بالفضل لهذا المهندس العراقي، الذي حاول أن يعطي بلده الأم العراق، مقترحاً لتحسين القطاع النفطي فيها، ولكن منظومة الفساد هناك لم تسمح له بذلك للأسف الشديد.
من ملاحظاتي عن هذه البلدان، حالة الرشد المالي، فلم أشاهد مظاهر البذخ والترف في اللبس والمأكل والمشرب كما هو الحال عندنا، فهم يهتمون بالإنفاق على السلع المعمرة، فسياراتهم من أفضل الماركات وأجودها، ولدبهم القوارب واليخوت كذلك، حتى سيارات الأجرة تجدها من ماركات جيدة وممتازة، ويهتمون كذلك بامتلاك الأصول العقارية، فتجد الموسرين منهم لديه أكثر من مسكن على البحر أو الجبل، أو حتى في دول أخرى للاستمتاع بالشتاء الدافئ فيها.
لم أجد في هذه الدول الغنى والثراء التاريخي من قلاع ومتاحف ومعالم تاريخية مثل بقية الحواضر الأوربية مثل باريس ولندن، رُبَما لقلة عدد السكان وضعف هذه الدول عسكرياً وعدم حصول أحداث مهمة فيها، ولم تكن نقط جذب أو مراكز تجارة عالمية.
لاحظت في النرويج، حيث قضيت فيها معظم تجربتي، سعة انتشار المساكن، حيث لم أجد انقطاعًا للعمران طوال تجوالي في البلد رغم صعوبة التضاريس الجغرافية وتناثر الجزر، فقد وجدت البيوت والقرى متناثرة على طول الطرق، وأكثر شيء أثار عجبي حول ذلك، هو أن بعض الجزر صغيرة جداً بمساحة تقل عن 2 كلم، توجد فيها بعض المساكن، وما يعني ذلك من وجود كافة الخدمات الضرورية لها، كذلك لاحظت كثرة العبّارات المتوفرة لنقل السيارات بين هذه الجزر المتناثرة، والدفع أوتوماتيكي عبر شريحة تثبت في زجاجة السيارة.
تهتم شعوب هذه الدول بالبيئة بشكلٍ استثنائي، حتى أني رأيت مرات عدة أشخاصاً يجمعون عبوات البلاستك من النفايات، ويضعونها في أجهزة خاصة مقابل النقود، وهي خطوة ذكية من الحكومة للحفاظ على البيئة، والأعجب أن دولة مثل النرويج وهي بلد مصدر مهم للنفط تفرض ضرائب باهضة على الوقود الأحفوري، فلتر البنزين والديزل نحو دولارين، والضرائب على سيارات البنزين أعلى من الكهربائية، والأخيرة شائعة الاستخدام في الدول الثلاث ونقاط الشحن منتشرة في كل مكان.
البنية التحتية ممتازة على نحو فائق في هذه البلدان، فرغم الطبيعة الجبلية الوعرة في النرويج وكثرة الخلجان والمضايق المائية وتناثر الجزر فيها، إلا إن الطرق مصممة ومجهزة على أعلى مستوى، ومما أثار عجبي كثرة الأنفاق فيها وطولها الكبير، حتى أني مررت بنفق طوله 25 كلم وهو مخدوم بالكامل بالإضاءة والتهوية وهاتف الطوارئ كل 200 متر تقريباً وكافة الخدمات.
الطبيعة في هذه البلدان خلابة على نحو استثنائي، فالسياحة هناك في الصيف شهري يوليو وأغسطس، تحربة ممتعة لا تنسى، النرويج كمثال تجد فيها امتزاج الجبال مع البحر والبحيرات والشلالات في مشهد واحد، حتى أني خلال تجوالي بالسيارة لم أستطع التفريق بسهولة بين البحر والبحيرات بسبب تداخل الخلجان والمضايق المائية مع البحيرات، ومن الطرائف التي يطيب لي ذكرها، أني شاهدت كروز ضخم جداً في البحر، وظننت لوهلة أن الكروز في بحيرة لا في البحر، من شدة روعة المشهد وصفاء الماء وكثرة الأشجار المحيطة، لكن ثمة أمر أجده مفيداً للقارئ، أن معظم الأماكن السياحية في النرويج، تقع في الغرب، وهي كما أسلفت ذات طبيعة جبلية وعرة، لذلك تعتبر قيادة السيارة فيها صعبة؛ لضيق الشوارع ذات المسارين، ولا سيما في الجبال، لذلك وجدت القيادة فيها أصعب بكثير من جبال الألب النمساوية أو روكي الكندية، حتى أن التنقل بين مكانين لا تزيد المسافة بينهما عن 80 كلم، قد يستغرق نحو ساعتين، بسبب الجبال والبحيرات والطرق الضيقة التي تتطلب القيادة بسرعة أقصاها 80 كلم/س، ولكن القيادة هناك متعة روحية وبصرية في جنان الأرض.
بداية الرحلة كانت كوبنهاجن عاصمة الدنمارك، وهي مدينة نابضة بالحياة وميناء مهم تحوي العديد من المعالم التاريخية والسياحية، وتعتبر من أكثر العواصم الإسكندنافية شهرة وجذباً للسياح، أكثر أمر لفت انتباهي هو كثرة الدراجات الهوائية فيها، حتى أنها ذكرتني بأمستردام، حتى أن تخطيط المدينة مجهز بالكامل لها، وحتى القطارات والمترو أصبح مهيأً لها، فلا يجد سائق الدراجة أي حرج في استعمالها، فهي موجودة في كل مكان حرفياً.
ذهبنا إلى مالمو جنوب السويد تبعد قرابة ساعة عن كوبنهاجن، وتجولنا في مركز المدينة والأرياف المحيطة بها، كانت مدينة جميلة وأحد المدن الجميلة التي تستحق الزيارة ليوم واحد، لاحظت إن الانتقال بين الدولتين عبر الجسر سلس ومريح جداً، حيث دفعت رسوم الجسر مع تأجير السيارة، ولم نقف في محطة الجسر حتى دقيقة واحدة.
بعد ذلك، ذهبنا إلى النرويج مدينة بيرغن، مدينة ساحلية، إحدى المدن السياحية والتجارية المهمة في النرويج، كانت عاصمة النرويج في القرون الوسطى، لذلك تحمل صبغة تاريخية مهمة، بعد ذلك توجهنا لقرية ?وس الجميلة الحالمة، التي يستورد منها مياه ?وس الشهيرة، أتذكر أني عندما وصلت إلى السكن شربت ماء من الحنفية، ومن روعة الطعم شربت أكثر من لتر رغم أني لم أكن عطشان. تجولنا في الأرياف المحيطة والبحيرات المنتشرة في المنطقة والأنشطة المتعددة المتوفرة.
بعدها توجهنا إلى قرية سترين، واستمتعنا بالمناظر الخلابة والقمم الجليدية والمضايق المائية، ومن أشهرها مضيق جرانجر، وذهبنا إلى مرتفع يطل على البحيرة من ارتفاع شاهق، وقد كانت هذه التجارب غنية بالمشاعر الجميلة وفريدة في نوعها لا يمكن للكلمات أن توفيها حقها.
في ختام الرحلة توجهنا إلى أوسلو عاصمة النرويج، ولم تكن مدينة كبيرة أو نابضة بالحياة مثل كوبنهاجن، فقد وجدتها مدينة عادية لا تملك المقومات السياحية للعواصم الأوروبية، لكنها مدينة حديثة وراقية في المجمل.
في الختام، أحب القول أن زيارة هذه البلدان تجربة فريدة لا تُنسى، بسبب الطبيعة الخلابة التي تتميز بها والرقي والتمدن والبنية التحتية الممتازة، وكثرة وتنوع الخيارات السياحية والأنشطة المتاحة، لكنها من جانب آخر تتطلب الخبرة العريضة في السفر والإعداد المسبق منذ فترة كافية والتكلفة المادية العالية، ولكن المردود من التجربة عند نجاحها يكون عالياً جداً.