قراءة في رباعية الدكتور عبد الله الغذامي
مآلات الفلسفة وآفاق النظرية النقدية
هل تموت الفلسفة وينتهي تأثيرها بعد انفصال العلوم التطبيقية والنظرية عنها؟ سؤال ملحٌّ على فلاسفة اليوم، أمَّا إجاباتهم فتوزعت ما بين تأكيد على انتهاء دورها، أو انتقاله إلى صيغة مساندة للعلوم والآداب، أو اكتفائه بالنظر والتحليل للموجود والمعاش، الأمر الذي يعني أنها كفَّت عن طرح أسئلة عميقة؛ من قبيل الأسئلة عن“الله، والخلود، وحرية الإرادة”.
“ريتشارد رورتي”، وبعد مسيرة فلسفية حافلة، أمضاها في البحث والدراسة، طرح على نفسه الأسئلة الثلاثة؛ بحثاً عن“خلاص الإنسان”من عذاباته و”شكوكه”، وصولاً إلى حالة“الطمأنينة”و”اليقين”، متسائلاً في ذات الوقت عن مصير الفلسفة ومآلاتها، وموقعها في الحياة؛ ليجد الجواب في“الشعر”! وهو ما أعاد الغذامي توجيهه إلى“الشاعرية”؛ حيث الشعر غارق في السلبية والنسقية، بينما الشاعرية أساس انبثاقها“الجمال”و”الخير”.
التأرجحُ ما بين الشك واليقين، ألجأ“فلاسفة العقل الكبار لحلول أخرى تسند العقل وتسد عجزه. وهؤلاء هم سقراط والغزالي وروسو وكانط وهيجل”؛ حيث“سخَّر روسو العقل ليكون دليلاً له على الفطرة، واستعان كانط بالنظام الأخلاقي، وكذلك عمل هيجل على ترقية العقل ليبلغ به حد الروح، وليكون العقل / الروح، هو الدليل إلى المعرفة المطلقة شرط أن يترقى العقل لمستوى الروح، وهذه هي شجاعة العلم التي تجعل ميزة العقل في قدرته على كشف عجزه حسب تجليات الغزالي”، الذي تتشابه رحلته“لكشف طريق الحكمة مع رحلة سقراط”.
الخلاص بالشاعرية من مأزق الفلسفة ومأزق الإنسان، أو ما بات يُعرف ب”المواطن العالمي”، كرَّسه الغذامي كتتويج لمشروعه، مستشهداً بعبارة ليفي شتراوس:“روضت العلوم الإنسانية نفسها منذ قرون على النظر إلى العلوم الطبيعية على أنها نوع من الفردوس الذي لن يتاح لها دخوله أبداً، ولكن فجأة ظهر منفذ صغير انفتح بين هذين الحقلين، والفاتح لهذا المنفذ هو الألسنية”؛ التي ساعدت العلوم والدراسات الإنسانية، في بلوغ درجة عالية من“الدقة والانضباط”، فانفتحت على الكثير من الآفاق، وخصوصاً موجات ما بعد الحداثة.
هَالت“أمبرتو إيكو”، تأويلات القراء البعيدة، وغير المنسجمة لروايتيه“اسم الوردة”و”بندول فوكو”؛ الأمر الذي فتح وعيه على إشكاليات“التأويل والإفراط في التأويل”،“حيث ذهبت التأويلات مذاهب لم تك في خلد”ه، لهذا اعتبر أكثرها غير صحيح، وبعيداً عن الواقعية، فاندفع إلى محاولة توجيهها،“وهذا ما وضعه في احتكاك جدلي معمق مع المقولات الجوهرية للنظرية النقدية، مثل مقولة «النص المفتوح».. موت المؤلف، وعصر القارئ، والإشارة الحرة متعددة الدلالات”، التي روجت لها التفكيكية، وتجاوزت بواسطتها عيوب البنيوية.
يواجه قارئ اليوم إشكالية شبيهة بالإشكالية بين التفكيكية والبنيوية، لذا ينبغي وضع حلول للانتقال بالمنهجين الفلسفي والنقدي، من إطارهما الحالي إلى إطار جديد؛ يحافظان من خلاله على الفلسفة، وممارساتها، وطرق طرحها للسؤال، وكيفية مقاربته، مع بقاء إمكانيات القراءة النقدية، القادرة على تلقي النصوص، والاشتغال عليها، واستخراج أسئلتها، والإجابة عليها.
لتجاوز الإشكالية المطروحة على الفلسفة والنظرية النقدية؛ لجأ الغذامي إلى المزاوجة بينهما، عبر التركيز على الثلاثية الفلسفية“حرية، عدالة، مساواة”، ناظراً إلى عيوب النظرية التي احتوتها؛ حيث أضاف بعداً رابعاً تمثَّل في“التعددية الثقافية”، لتنتقل بذلك من إطارها الفلسفي المحض، إلى الإطار الثقافي، بما يشتمل عليه من مفاهيم، وطرق حياة، وأسئلة وجود.
لا يمكن تطوير نظرية في الفلسفة، بعيداً عن وجود الإنسان، وحياته، ما يعني إدخاله إلى عميق إشكالياتها؛ المتمثِّل في نهاية حقبة امتدت طويلاً، سيطرت عبرها على التفكير البشري، قبل أن تتراجع، ويخفت صوتها مع استقلال العلوم الطبيعية، ثم استقلال العلوم الإنسانية،“لدرجة أن وصل الأمر بإعلان موت الفلسفة حسب ستيفن هوكينج”.
موت الفلسفة غير وارد؛ إذ الإشكالية التي تعاني منها، هي ذات الإشكالية التي يعاني منها المنهج النقدي، فعلاجهما يأتي بالتزامن و”التجاور”، وهو ما فعله الغذامي، حينما اتجه إلى التأكيد على أن: خلاص الفلسفة من مأزقها؛ يكون عبر“النظرية النقدية”، وخلاص المنهج النقدي من مأزقه؛ يكون عبر الفلسفة، وطرقها، وكيفية مقاربتها، وصناعتها للأسئلة،“وهذا يعزز الحاجة للتفاوضية الثقافية بأركانها الأربعة مجتمعة، واجتماع الأركان الأربعة «الحرية والعدالة والمساواة والتعددية الثقافية» هو وحده الضامن لمنع تأويل المفاهيم تأويلاً يعزز رغبات المهيمن وقمع تطلعات المهمش”.
هكذا تغدو“التفاوضية الثقافية”؛ قادرة على قيادة الحضارة الإنسانية، وتجنُّب العيوب النسقية، مع احتفاظها بالتجدد؛ لمقاربتها أحداث العصر، ومستجدات الحياة.